"المرحوم"..

من ثقافة حب الحياة التي تؤسس لها شعوب العالم الكافر (؟!) باختراعاتها المتنوعة، إلى فلسفة الموت التي تدشنها شعوب العالم المؤمن (؟!) تقبع بعض عقولنا العربية في التسويق لعذاب القبر والثعبان الأقرع كأيديولوجيا دائمة تفرش سوداويتها على تفكيرنا وسلوكياتنا، تستلبنا منذ الطفولة البريئة لتصوغ وجداننا حول كيفية “تغسيل الميت” لا أن تعلمنا كيف نعيش ونتعايش، وتصل في تطرفها إلى درجة أنها ربما تستكثر علينا بسمة أو ضحكة طارئة ترسم بهجة ما وسط هذا الزخم الكئيب.. وليكتفي بعضنا بلعن هذا الغرب والتقرب إلى الله بالدعاء عليه، فيما نحن نستورد كل حاجاته، طعاماً وشراباً وملبساً، حتى ليصيح مجنونٌ ما: ماذا سنكون بغير هؤلاء الزنادقة والكفار؟
الحقيقة أننا -كمصريين مثلاً- شعب ليس له “كتالوغ” أو دليل صناعة.. عدا أنه فقير رغم إمكانياته وثرواته، فهو أيضاً “منحوس الطلعة” و”أغمّ القفا”. جيناته الوراثية في قمة الغرابة؛ ورغم أنهم يطلقون عليه “ابن نكتة” لكن الحقيقة هي أنه “ابن نكد” وشكله مثل “القرموط” لا يجيد العيش إلا في المياه العكرة.
يستغرب كثيرون لماذا الزوجة المصرية تحتل الرقم واحد في النكد على مستوى العالم؟ لا يعرفون طبعاً أنها راضعة النكد من “ثدي” أمها و”بوز” أبيها وترضعه لأطفالها؛ ورثته وتورّثه؛ تجري وراءه باحثة عنه، في الوقت الذي يعرف هو أيضا عنوانها ليستدل عليها.. لذا كان الكتالوغ المهروش.. يبكي عندما يفرح.. مثلما يبكي عندما يحزن، وحتى لو أطلق ضحكة مجلجلة، فسرعان ما تصاحبها الدموع الحارة، فيمسح عينيه قائلاً: اللهم اجعله خيرا؛ كأنه في أعماقه يستكثر الضحك أو لا يصدق نفسه!
وبنفس الوتيرة، يستذكر الموت في كل موقف، ليس لأنه متدين أو يحاول الاتعاظ، ولا لأنه يعمل حساباً لآخرته.. أبدا؛ هذا نوع من “الفقر الأزلي” المتناقض.. مثل ذلك اللص، الذي لا يكف لسانه عن الدعاء، وهو يتسلق المواسير لسرقة الغسيل: “استرها معانا يا رب”!
ولأني لا أصدق أن الفراعنة بنوا الأهرامات تخليداً لموتاهم، أعتقد أن تعبير الموت الشائع لا علاقة له بالإيمان أو التقوى، بل بات من مخلفات شذوذ الحياة، فالمصري يموت من الضحك، مثلما يموت من البرد أو الخوف أو الجوع أو الحر، ومثلما يكره “موت” فإن العاشق أيضاً يحب “موت”!
وسط تخيل أننا شعب “متوفى” ويقرأ الفاتحة يومياً على روحه.. أتساءل: من أولئك الذين يعيشون الآن؟ من هذه الأشكال “المرحومة” المتكدسة طال عمرها في الشارع؟.. والأهم: بأي نِفس ومزاج، أصبحنا 100 مليون؟