المرافق الصحية نظام يهدّد غيابه حياة المليارات من البشر

لندن – مرّ هذا الشهر يوم مختلف عن تلك الأيام التي اعتبرتها الهيئات الدولية مناسبات مهمة، فقد قرر المجتمع الدولي، ممثلا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، منذ ما يقرب من عقد، إعلان يوم الـ19 من نوفمبر من كل سنة يوما عالميا لمعالجة مشكلة نقص المرافق الصحية أو غيابها في الكثير من البلدان والمجتمعات في العالم.
ويرى الكثيرون المرحاض ذلك “الشيء” الموضوع في الحمام بجانب الشطافة وحوض غسيل اليدين بمياهه الساخنة والباردة وحوض الاستحمام لا أكثر. ونظرا لوظيفتها “غير المرموقة”، فإن بعض الأثرياء ولاسيما في بعض الدول الغنية يختارون صنع المراحيض من الذهب الخالص. ليتحول بيت الحمام شيئا فشيئا إلى اللون الذهبي.
ويفضّل العديد من الأشخاص أن تكون مراحيضهم أكثر راحة ويطوّرونها بخاصيات مثل التدفئة والشطف التلقائي. وعلى أيّ حال، لن يفكر أحد في الأهمية الكبيرة لكل هذه “الأشياء” كونها من الأمور المفروغ منها. لكن الجانب الآخر من العملة يظهر صورة مختلفة تماما. وهي في الحقيقة صادمة.
المليارات من البشر بلا مراحيض
لا يزال ما يقرب من 4 مليارات شخص، أو حوالي نصف إجمالي سكان العالم البالغ 8 مليارات، يعيشون دون مرحاض آمن ومرافق الصرف الصحي الأخرى. وتواصل الأمم المتحدة الاهتمام بمشكلة غياب المرافق الصحية أو نقصها عاما بعد عام، بالقول إن التقدم والإنجازات قد تحقّقت على أيّ حال، مهما بقي الكثير الذي يتعين القيام به، وهذا لم يشمل هذه المشكلة وحسب، بل امتدّ ليغطي كل المشكلات التي يواجهها العالم، في ما بات يعرف بـ”الصواب السياسي“.
على الرغم من هذا “الصواب”، صرّح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في ذلك اليوم بأن العالم لا يزال بعيدا عن المسار الصحيح للوفاء بوعد هدف التنمية المستدامة لضمان توفّر دورات میاه آمنة للجمیع بحلول 2030.
لقد كان ذلك مؤشراً حاسماً في خطة التنمية المستدامة تم وضعه بشكل مسبق لتلك السنة. ويبقى الاستثمار في أنظمة الصرف الصحي منخفضا والتقدم بطيئا للغاية.
كارثة صحية وبيئية
المعلومات التي وفّرها ما يمكن أن نسمّيه بـ”يوم المرافق الصحية“، أو ”يوم المرحاض“، تضع أمامنا حقائق صادمة بالفعل، والبداية ستكون من هنا؛ ففي كل يوم يموت أكثر من 800 طفل دون سن الخامسة بسبب الإسهال المرتبط بالمياه غير الآمنة والصرف الصحي وسوء النظافة.
ويرتبط سوء الصرف الصحي بانتقال الأمراض المسببة للإسهال مثل الكوليرا والدوسنتاريا والتيفوئيد والتهابات الدودة المعوية وشلل الأطفال. كما يؤدي إلى تفاقم التقزم ويساهم في انتشار مقاومة مضادات الميكروبات.
أمّا على الصعيد العالمي، فإنّ مدرسة من ثلاث مدارس لا تحتوي على مراحيض كافية، ولا يحتوي 23 في المئة من المدارس على مراحيض على الإطلاق. ويمكن أن تتسبب المدارس التي لا تحتوي على دورات مياه في تقويض تعليم الفتيات، حيث تضطر الكثيرات إلى التغيب عن المدارس التي تفتقر إلى مرافق الصرف الصحي المناسبة عندما يكنّ في فترة الدورة الشهرية.
أما عن كيفية قضاء الحاجة، فتريك الأرقام أن حوالي 900 مليون شخص حول العالم يقضون حاجاتهم في العراء، على جانب الطريق أو خلف الشجيرات أو أكوام القمامة. وغالبا ما يتعلق الأمر بالمكان الذي يعيشون فيه، حيث يعيش 90 في المئة من هؤلاء في المناطق الريفية.
مدارس العالم تحتوي منها مدرستان فقط من كل ثلاث مدارس على مراحيض كافية، ولا يحتوي 23 في المئة من المدارس على مراحيض على الإطلاق
ويتجه 494 مليونا منهم على سبيل المثال إلى البالوعات والمجاري أو خلف الشجيرات أو في المسطحات المائية المفتوحة.
ويقف الافتقار إلى خدمات الصرف الصحي في 2020 فقط وراء حقيقة أن تصريف 45 في المئة من مياه الصرف الصحي المنزلية المتولدة على مستوى العالم يكون دون معالجة آمنة. وبالتالي، يُعتقد أن ما لا يقل عن 10 في المئة من سكان العالم يستهلكون الطعام المروي بمياه الصرف.
التأثير على المياه الجوفية
ركّز اليوم العالمي للمرحاض في هذا العام على حقيقة أخرى غير مرئية، هي الآثار الخطيرة لأزمة الصرف الصحي هذه على المياه الجوفية التي تعد مصدرا لما يصل إلى 99 في المئة من المياه العذبة في العالم.
وتستكشف حملة 2022 التي تحمل شعار “المياه الجوفية – جعل غير المرئي مرئيا” كيف تنشر أنظمة الصرف الصحي غير الملائمة النفايات البشرية في الأنهار والبحيرات والتربة، مما يؤدي إلى تلويث موارد المياه الجوفية.
لكن يبدو أن هذه المشكلة غير مرئية لأنها تحدث تحت الأرض وفي أفقر المجتمعات وأكثرها تهميشا.
وتبقى المياه الجوفية هي أكثر مصادر المياه العذبة وفرة في العالم. وهي تدعم إمدادات مياه الشرب وأنظمة الصرف الصحي والزراعة والصناعة والنظم البيئية. كما تعد حيوية لبقاء الإنسان مع تفاقم تغير المناخ وتزايد السكان.
كيف وصلنا إلى هنا؟
حتى في العصور السحيقة كان الإنسان يحتاج إلى النظر في ما تحت الأرض، لاستخراج المياه من الآبار، وقد حفرت أولى الآبار منذ أكثر من 6 آلاف عام قبل الميلاد، في منطقة مرج ابن عامر شمال فلسطين.
إلا أن أول حفر لاستخدام معاكس، وهو صب المياه في جوف الأرض للتخلص منها، كان في بلاد السند في آسيا، حيث نشأ أول نظام صرف صحي في الألف الثالثة قبل الميلاد، وقد شوهدت في مدينة لوتهال الهندية مراحيض في كافة البيوت موصولة بشبكة صرف صحفي مبنية من الطوب والجبس، تجمع المياه الملوثة ثم تصبها في مسطحات مائية وفي آبار ترسيب يجري تفريغها لاحقاً.
وكان لارتباط استخدام المياه بالشعائر الدينية أثر كبير في ابتكار المراحيض وأنظمة الصرف، وهذا ما جعل العلماء والآثاريين يصححون تاريخ ظهور أول شبكة صرف صحي، ويثبتون أنها ظهرت إلى العيان لأول مرة في بلاد الرافدين في الألف الرابعة قبل الميلاد. لتنتقل بعد ذلك وتصبح نموذجاً للري والسقاية والتسميد في الحضارة الهيلينية وليستعملها الرومان في روما ومدنهم الكبيرة حول العالم.
في تلك الفترة استخدم البشر الأنابيب المصنوعة من الطين والمدفونة تحت الأرض لتكون نظام صرف خاص بهم، وما تزال في كريت بقايا هذا النظام في العاصمة كنوسوس التي تضم نظامين واحد لشرب المياه وآخر لتصريفها، بالإضافة إلى نظام للتخلص من مياه السيول. ومن غرائب التقدم الذي وصل إليه أهل كريت، أنهم صنّعوا ما نسميه اليوم بـ”السيفون“ وهو ما يزال يعمل حتى اليوم.
في أثينا وآسيا كان اليونانيون ينشئون نظم الصرف الصحي في الحمامات مزوداً بمياه مضغوطة للطرد، ويعود الفضل في ذلك الابتكار إلى المهندس اليوناني هيرون الذي استخدم هذا النظام الطارد لإطفاء الحرائق في مدينة الإسكندرية المصرية.
وفي الحضارة العربية الإسلامية اتصلت يوميات الفرد بالوضوء والطهارة، ما شكّل دافعاً لتطوير نظم الصرف الصحي التي نشأت في كل المدن العربية على امتداد خارطة الدولة، إضافة إلى الحمامات والمراحيض العمومية قرب المساجد أو في أنحاء مختلفة، ومنهم انتقل إلى أوروبا عبر الأندلس وشمال أفريقيا.
وقبل ذلك كان الأوربيون في العصور الوسطى ولأسباب دينية، حيث تمنع ملامسة المياه وهي من الأمور التي فرضتها الكنيسية، غير مهتمين بالصرف الصحي، لاسيما في العصور الوسطى، ما أسهم في انتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة التي اجتاحت القارة عدة مرات.
إلا أن تواصلهم مع الشرق في العهود الاستعمارية جعلهم يجلبون معهم من جديد أفكاراً عن ضرورة إنشاء أنظمة للصرف الصحي في مدنهم وبلداتهم.
ووصولاً إلى نهاية القرن التاسع عشر، حين تم وضع نظام متطور لمعالجة مياه الصرف الملوثة، ما يزال هو المستخدم في عصرنا الحالي في أنحاء العالم، مع ظهور أجيال جديدة لمعالجة المياه تجعل منها صالحة للاستخدام البشري مجدداً كما أعلنت دول عدة مؤخراً مثل سنغافورة التي اشتكت من نقص الموارد، ما اضطرها إلى إعادة تدوير مياه الصرف الصحي، إذ تقوم هذه الإستراتيجية على ما قيل إنه “الإفادة من كل قطرة ماء” و”الاستمرار في إعادة التدوير إلى ما لا نهاية”.
أخطار غير مرئية
إن الصرف الصحي المدار بأمان يحمي المياه الجوفية من التلوث بالنفايات البشرية. وحتى يحدث هذا يجب أن تُجمّع المراحيض النفايات البشرية بشكل سليم وتكون متصلة بأنظمة الصرف الصحي المدارة بأمان، ومن ثمّ تعالجها وتتخلص منها، ما سيساعد على منع انتشار النفايات البشرية في المياه الجوفية.
ويجب أن يتحمل الصرف الصحي تغير المناخ. لذلك، من المفروض بناء المراحيض وأنظمة الصرف الصحي أو تكييفها للتعامل مع الأحداث المناخية القاسية لتتواصل الخدمات دائما وتحمي بذلك المياه الجوفية.
ويوضح كل ما ورد أعلاه كيف يمكن أن تكون هذه “الأشياء” الموجودة في الحمام منقذة للحياة. وبالنسبة إلى أولئك المهووسين بقياس المعاناة الإنسانية من حيث كسب المال فقط، يجب أن يكون كافيا أن يعرفوا أن توفير الصرف الصحي المناسب هو عمل جيد، ويعني أن كل دولار أميركي يُستثمر فيه سيكون قادراً على توفير 5 دولارات في الخدمات الصحية الأخرى.