المراجعة أو الانعزال.. خياران وحيدان أمام الإسلام السياسي

وصل الإسلام السياسي إلى الحكم في بعض الدول التي قامت فيها انتفاضات شعبية، وهناك تجارب الحكم الجزئي لفصائل إسلامية مختلفة في تشددها على أجزاء من الأراضي السورية المحررة من سيطرة النظام، كل ذلك فتح الباب أمام تساؤلات حول قدرة استيعاب الإسلام السياسي للعلمانية وقيم الحداثة المتعلقة بالديمقراطية والحريات.
الإسلاميون يعتمدون على استثارة المشاعر الدينية، وتكفير الآخرين، واستدعاء المظلومية التي تعرضوا لها في فترة حكم الاستبداد، للحصول على شعبية كافية للوصول إلى الحكم، فهم عموماً ليس لديهم مشروع سياسي اقتصادي نهضوي للحكم.. ولو بالحد الأدنى، لذلك يلجأون إلى محاولة السيطرة على مؤسسات التعليم والثقافة أكثر من اهتمامهم بغيرها، ويعنيهم إبقاء المجتمعات في جهل، والتعاطي مع الدين بطريقة فوقية أبوية، تملي ما هو محرّم وما هو مباح، وتحارب وتكفّر إعمال العقل والنقد في كل ما يتعلق بشؤون الحياة العامة والشخصية وصولاً إلى السياسة.
وصول الإسلاميين إلى الحكم وضعَهم أمام احتمالين: الأول القبول بالواقع الحي المتغيّر والباحث عن قيم الحداثة، بما في ذلك فصل الدين عن الدولة، وهو ما قبلت به مؤخراً حركة النهضة، أي قبلت بواقع مفروض من قبل الغالبية الشعبية والليبراليين المتواجدين في الساحة السياسية، لكنها لم تتنازل عن محاولاتها لاستقطاب الشعب عبر العاطفة الدينية، إذ أقرت باقتصار الوجه الديني للحركة على الدعوة.
وضع العراق مختلف حيث يسلب الاستقطاب الطائفي الشعبي الألباب على حساب أي مراجعات سياسية للإسلاميين
الاحتمال الثاني هو التعنّت أمام الواقع وانتصار التيار المتشدد في الحركة، ورفض الشراكة مع الآخرين، الإسلاميين والعلمانيين؛ ممّا يضع كل التيار الإسلامي أمام واقع مختلف، يقول بالعودة إلى قيم ما قبل الحداثة، وينتقي ما يتفق مع تشدده من التراث الإسلامي الغني بالفتاوى والتفاسير المتناقضة للنص المقدس تبعاً للظرف التاريخي والحاجة في عصور ما قبل الحداثة، حيث كانت الأيديولوجيا الدينية هي السائدة. مثل هذه التيارات عاجزة عن البقاء في الحكم، وغالباً ما تكون معارضتها تكفيرية وطائفية، وتقبل العنف ضد المجتمع، كما حصل في مصر، دون أن ننكر أن الجيش المصري بقيادة عبدالفتاح السيسي قام بانقلابه على الإخوان مستغلاً عواطف فئات من الشعب عارضت الإسلاميين.
وفي سوريا تجارب مباشرة لحكم كتائب إسلامية متنوعة في مناطق المعارضة، جزء منها اتخذ أيديولوجيات دينية غير متشددة، تحاكي تدين الشعب، وكانت الفتوى تتدخل في السياسي والمصلحي الفئوي أكثر مما تتدخل في الشؤون الشخصية، كحركة أحرار الشام في إدلب وجيش الإسلام في الغوطة الشرقية. لكن هذه الكتائب لم تخفِ طائفيتها ورفضها لوجود غير المسلمين والعلمانيين، فكلا الفصيلين كان همّهما السيطرة والحكم، ثم المشاركة في حكم سوريا المستقبل في حال تحقق حل سياسي، لذا لم يمانعا المشاركة في مفاوضات جنيف والتزام الهدنة، وخالفا ذلك حين اتضح عدم جدية السعي لتحقيق الحل من قبل الدول الراعية له.
كلٌّ من أحرار الشام وجيش الإسلام كانا يميلان إلى أسلمة المجتمع وتطييفه، لكن دون مواجهة مباشرة معه، لذا اختبآ في ذلك خلف حليفتهما في قتال النظام، وهي جبهة النصرة، والتي فرضت على النساء ارتداء البرقع في الشمال، وأعدمت الكثيرين بتهم التكفير. النصرة هذه المكونة في أغلبها من عناصر سورية، تمسّكت صراحة بتنظيم القاعدة، وبعد استبعادها من الهدنة ورفضها الحل السياسي شعرت بأنها حُشرت في الزاوية الضّيِّقة، خاصة أن وضع تنظيم القاعدة في تراجع في أفغانستان واليمن والعراق، ما جعل زعيمه أيمن الظواهري يعلن النفير والتعبئة نصرة لأهل الشام.
سوريا باتت في حالة حرب متشابكة الأطراف، فالتمويل والدعم يأتيان لكل الكتائب الإسلامية، ومعظم هذه الكتائب منذ تصاعد الأسلمة نهاية 2013، حاربت الجيش الحر، أي الكتائب التي ليست ذات مرجعية دينية واضحة، وإن كانت عناصرها مؤمنة، مما اضطر هذه العناصر إلى الانضمام إلى الكتائب المختلفة طالما تحارب النظام.
في سوريا تجارب مباشرة لحكم كتائب إسلامية متنوعة في مناطق المعارضة، جزء منها اتخذ أيديولوجيات دينية غير متشددة
بدأ الإشكال حين دخلت الهدنة حيز التنفيذ، وإن لم تدم طويلاً، حيث قامت التظاهرات الشعبية مجدداً، ونددت بالإسلاميين، وطالبت بترك الدين وشأنه، وأيدت عودة ظاهرة الجيش الحر، ما يعني تقبل الحاضنة الشعبية في المناطق المتهمة بالانغلاق والتدين للعلمانية. وربما باتت هذه الفئات الواقعة تحت حكم الإسلاميين تميز بين التدين الشعبي والإسلام السياسي، بين إيمانها الذي يساعدها على تحمل أعباء الحرب والجوع والحصار، وبين من يتاجر بالدين، ويفرض التشدد في اللباس والسلوك، ويُكرِه الناس على أداء الطقوس، ويتدخل في الشأن الشخصي.
هناك مناطق لم تعد فيها الأسلمة أولوية بقدر ما هي الطائفية؛ فوضع العراق مختلف حيث يسلب الاستقطاب الطائفي الشعبي الألباب على حساب أي مراجعات سياسية للإسلاميين، فتجد عشائر كاملة تبايع تنظيم الدولة الإسلامية بالضد من ميليشيا الحشد الشعبي الشيعية والممارسات الإقصائية لحكومة المالكي الطائفية ضدها والتدخل الإيراني في الشأن العراقي.
وبالمثل اقتيد الصراع في مصر إلى انقسام حاد بين مؤيدي الإخوان ومؤيدي العسكر. وفُعل الشيء ذاته في مراحل عديدة من الصراع الدائر في سوريا، لكن الوجه الطائفي للصراع في سوريا لا يمكن أن يدوم طويلاً، وهذا ما جعل النظام يعتمد في التأجيج الطائفي على عناصر غير سورية، من إيران وحزب الله والعراق وغيرها…
ويبقى القول إنه لا مبرر منطقي لوجود حركات الإسلام السياسي، لكنها موجودة، ولا بد من التعاطي معها، فهي نشأت في الأصل بالضدّ من تصاعد الأحزاب القومية واليسارية، ثم استلمت الحكم في عدة دول في خمسينات القرن الماضي.
حركات الإسلام السياسي تقوم على الاستقطاب الطائفي، والعاطفي الديني، وليس على برامج تنموية وحداثية، وبالتالي سيُفرَض عليها، بضغط من الشعب، أن تراجع وضعها الأيديولوجي باتجاه العلمانية الكاملة، وهو ما بدأته حركة النهضة التونسية، وغير ذلك لن تكون سوى أدوات للتأجيج الطائفي والعنف والتعطيل، ولن تصمد في مراكز الحكم، وتنظيمُ الدولة داعش مثال صارخ على ذلك.