المرأة تدفع ثمن الحرب مرتين

الاغتصاب أداة للانتقام والمتعة والابتزاز والترهيب للسيطرة على النساء ومجتمعاتهن.
الأحد 2023/11/19
النساء لا يمتلكن أجسادهن في الحروب

تختفي كل المكاسب التي حققتها المرأة على مدى قرون عند اندلاع الحروب وحتى بعد انتهائها، لتضطر إلى تحمل تبعات آثار النزاعات والعنف المنزلي الذي تغفره كل المجتمعات للمحاربين العائدين من الجبهات.

ستوكهولم - في عام 1968 قدمت شركة التبغ فيليب موريس نوعا جديدا من السجائر يسمى “فيرجينيا سليمز” واعتمدت شعار “لقد قطعت شوطا طويلا عزيزتي”، وسوقتها للنساء حصريا واستغلت الحملة الإعلانية حركات الحقوق المدنية في الستينات، وألمحت إلى أن تلك السجائر كانت للنساء القويات والمستقلات والمتحررات.

كانت تلك كذبة صارخة، لماذا تختار النساء “المستقلات” تسميم أنفسهن بسلعة تتسبب سنويا في وفاة أكثر من 480 ألف شخص في الولايات المتحدة وحدها، أي حوالي حالة وفاة واحدة من كل خمس حالات، ويطرح هذا الإعلان المخادع سؤالا آخر هو “إلى أي مدى وصلت المرأة في طريقها إلى الاستقلال والتحرر؟” ما هو وضع المرأة العالمي اليوم؟

وتقول الكاتبة جان لونديوس في تقرير لخدمة إنتر برس “لقد أحرزت المرأة تقدما، ولكن لا يمكن أن يخدعنا هذا ويجعلنا نعتقد أنه لا فرق بين محنة الرجال والنساء. فالحرب التي اشتعلت في أوكرانيا وفلسطين جلبت معها المعاناة الإنسانية والأخبار الكاذبة حيث تتهم إسرائيل وحماس وروسيا وأوكرانيا، بعضها البعض بارتكاب فظائع. ومن المؤكد أن كل الأطراف المتحاربة متورطة، فهذا ما يحدث في الحرب: يتعرض الناس للصدمة والتشويه والتعذيب والقتل. لكن صورة الحرب التي نتابعها في أخبارنا اليومية تذكرنا بطريقة ما بإعلانات التبغ. فهي تتجاهل حماقة الحرب والسجائر التي تسبب الموت والمعاناة الهائلة. وتُعرض الجرائم ضد الإنسانية على أساس الجانب الذي يجد فيه الجناة والضحايا أنفسهم، وكذلك مؤيدوهم الذين لا يعانون من أهوال العنف والتشريد.

تأثير مختلف

جميع مستويات التفاعل البشري تتأثر بعملية “العسكرة” وتصبح القيم الحربية مهيمنة لفترة طويلة بعد توقف العدوان المسلح
جميع مستويات التفاعل البشري تتأثر بعملية “العسكرة” وتصبح القيم الحربية مهيمنة لفترة طويلة بعد توقف العدوان المسلح

الحرب ليست صحية وهي غير طبيعية وتجعل الناس غير طبيعيين، وتستمر آثارها القاتلة. كما تؤثر على الرجال والنساء بطرق مختلفة. فهي تفاقم العنف المنزلي حيث ترتفع مستويات التوتر عندما يعود الرجال المصابون بصدمات نفسية إلى أسرهم بعد فترات طويلة على الخطوط الأمامية ليجدوا أن وضعهم المنزلي قد تغير.

لقد ارتكب قدامى المحاربين العائدين من ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى جرائم ضد النساء أكثر من أي وقت مضى. وحدث نفس الشيء بعد الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي الذي كان عدد النساء فيه يزيد بنحو 20 مليونا عن عدد الرجال حتى 1959 بسبب الخسائر البشرية الناجمة عن الحرب. ويعدّ هذا من مؤشرات كون الحرب جنسانية.

وارتفعت تقارير الشرطة عن العنف المنزلي إثر الغزو الروسي لأوكرانيا. وفرّت العديد من النساء مع أطفالهن من الحرب، وتحمّلت اللاتي قررن البقاء وطأة إحباط الرجال.

وتقول النساء المعنفات “مع كل الاحترام الواجب لجنودنا، قد نجد أنفسنا في وضع يحظى فيه المحارب القديم العائد من الحرب بالاحترام والتعاطف معه إلى حد أن جريمة بسيطة مثل العنف المنزلي قد تُغفر له على جميع المستويات”.

ويحدث هذا في روسيا وفي جميع أنحاء العالم عبر البلدان التي تعاني من الصراعات المسلحة. وتتأثر جميع مستويات التفاعل البشري بعملية “العسكرة” الحتمية، مما يعني أن القيم الحربية تصبح المهيمنة حتى لفترة طويلة بعد توقف العدوان المسلح.

ويفوق عدد الضحايا المدنيين عدد المقاتلين المسلحين في الحروب الحديثة. ويعاني المدنيون العزل من انتهاكات حقوق الإنسان، في حين تتعرض النساء لانتهاكات محددة تتعلق بجنسهن. وغالبا ما تواجه النساء والفتيات المستهدفات بالعنف الجنسي عقبات لا يمكنهن التغلب عليها إذا حاولن المطالبة بالعدالة.

وتعاني الكثيرات من الوصمة الاجتماعية التي تتفاقم بسبب حقيقة وضع النساء والفتيات الاجتماعي المستضعف، رغم أن المرأة تشكل العمود الفقري لمعظم المجتمعات. وتبقى أفكارهن وطاقتهن ومشاركتهن ضرورية لضمان القدرة على الصمود أثناء النزاعات، كما تعدّ مهمة أثناء إعادة بناء المجتمع إثر الحرب. ولضمان السلام الدائم يجدر الاعتراف بتعرض المرأة بشكل خاص للعنف والسماح لها بلعب دور أساسي في جميع مراحل عملية السلام.

أقل إنسانية وشأنا

العنف المنزلي يتفاقم بعد انتهاء الحروب عندما يعود الجنود المصابون بصدمات نفسية إلى أسرهم بعد فترات طويلة على الخطوط الأمامية

وكثيرا ما يجد الجنود المقاتلون أنفسهم محاطين بالمدنيين الذين يعتبرونهم أعداءهم، أو حتى كائنات أقل إنسانية وشأنا. ومن الشائع جدا أن يُمنح الجنود بسبب حرص قادتهم على زيادة شراستهم، ترخيصا لتجاهل الحدود الطبيعية التي تشكّل السلوك المدني. وقد يُنظر هنا إلى المرأة على أنها تدعم وتجسد “ثقافة العدو وصموده”، وقد يصبح تدمير أمن الأعداء الداخلي وشعورهم بالانتماء الثقافي/العرقي هدفا عسكريا بما يشرّع العنف ضد المرأة.

وقد تركز الهجمات على النساء في بعض الأحيان على دورهن كأمهات. فأثناء الإبادة الوحشية التي شنّها النظام النازي لليهود والغجر والسنتي، بالإضافة إلى العديد من المجموعات العرقية الأخرى، اعتبرت قوات النخبة من قوات الأمن الخاصة ضحاياها حشرات “لا تستحق الحياة”. وذكّر زعيم هؤلاء المبيدين القساة هاينريش هيملر بأنه لا يكفي قتل البالغين فحسب، بل يجب قتل أطفالهم أيضا “وإلا فسيكبرون وينتقمون من قتلة والديهم”. وقد استخدم مرتكبو المذابح الأخرى ضد الأقليات العرقية حججا مماثلة عند قتل الأطفال وتدمير الأجنة وتشويه أعضاء النساء التناسلية من أجل “القضاء على النسل”.

كما اختُطفت الشابات والفتيات وأصبحن إماء جنسيات، في حين أُجبر الأطفال والشباب على أن يصبحوا “محاربين”. ويبقى التأثير على الأطفال وتهديدهم أسهل من التأثير على كبار السن، الذين قد يدعمون القوات والمقاتلين من خلال عملهم الزراعي وأنشطتهم الأخرى. وكتبت تشاينا كيتيتسي، وهي جندية طفلة سابقة من أوغندا تعيش الآن في الدنمارك، في كتابها “الجندي الطفل”، “انضممت إلى جيش المقاومة الوطنية عندما كنت في التاسعة من عمري. عندما وصلت هناك لم أكن الوحيدة من جيلي. وجدت العديد من الأطفال. وكان عمر بعضهم خمس سنوات فقط. اعتقدت في البداية أن الأمر كان مثيرا، وبدت طريقة مشيهم كاللعبة وأردت أن أكون جزءا منها. في اللحظة التي أصبحت فيها جزءا منها، انتهت جميع حقوقي وكان علي أن أفكر وأشعر وفقا لقائدي”.

يوجد حاليا جنود أطفال في أكثر من 150 دولة ضمن القوات المسلحة الحكومية والمعارضة، ويقدر أن الفتيات يشكّلن 30 في المئة منهم. وكتبت كيتيتسي “كنا حارسات شخصيات لرؤسائنا وكنا نطبخ ونعتني بهم بدلا من أن يعتنوا بنا. كنا نجمع الحطب ونحمل الأسلحة، وكان الأمر أسوأ بالنسبة للفتيات لأننا كنا صديقات للعديد من الضباط المختلفين. اليوم، لا أستطيع أن أتخيل عدد الضباط الذين مارسوا الجنس معي. وأصبح الأمر في النهاية وكأنني لا أملك جسدي، بل هو جسدهم. كان من الصعب قضاء اليوم وأنا أفكر في الضابط الذي سيأتيني الليلة”.

الاغتصاب رفيق الحروب

الحرب تجعل الناس غير طبيعيين
الحرب تجعل الناس غير طبيعيين

ويبقى الاغتصاب شائعا في أي نزاع مسلح. ويُستغل لترهيب النساء والسيطرة عليهن وعلى جميع أفراد مجتمعاتهن. كما أنه يعدّ من أشكال التعذيب المُعتمدة لانتزاع المعلومات والمعاقبة والترهيب. وترتكب مجموعة واسعة من الرجال جريمة الاغتصاب في زمن الحرب.

ويميل حتى أولئك المكلفون بحماية المدنيين إلى الاعتداء الجنسي على النساء والفتيات اللاتي تحت رعايتهم. وقد تكون النساء مستهدفات بالاغتصاب بسبب وضعهن الاجتماعي أو أصلهن العرقي أو دينهن أو نشاطهن الجنسي. وفي رواندا، تشير التقديرات إلى ارتكاب ما بين ربع ونصف مليون حالة اغتصاب خلال 100 يوم من الإبادة الجماعية من السابع من أبريل إلى الخامس عشر من يوليو 1994.

وغالبا ما يكون الاغتصاب مصحوبا بوحشية شديدة. وكثيرا ما تموت النساء والفتيات أثناءه، أو بعده متأثرات بإصاباتهن. وهذا ما ينطبق خاصة على الفتيات الصغيرات. وتشمل العواقب الطبية الأخرى انتقال فايروس نقص المناعة البشرية ومضاعفات خطيرة في الصحة الإنجابية. وليس الخوف والكوابيس وآلام الجسم النفسية سوى البعض من المشاكل التي تعاني منها الناجيات. وتُغتصب النساء في بعض الأحيان أمام الآخرين، وغالبا ما يكنّ من الأسرة لتعميق الشعور بالعار. وتقول بعض الناجيات من الاغتصاب إنهن يفضلن الموت على أن يعلم آخرون بما حدث.

وتزداد معدلات الترمل والتشتت أثناء النزاعات المسلحة، وغالبا ما تضطر النساء إلى الفرار واصطحاب أطفالهن معهن، حيث يبقى الرجال والفتيان مستهدفين بالقتل أو التجنيد القسري الذي تقوده الفصائل المتحاربة. وتتدمر المنازل وتُقتلع عائلات بأكملها. ويتسبب فقدان منزل الأسرة في مشاكل محددة للنساء، بما في ذلك ارتفاع معدلات العنف المنزلي، والصعوبات العملية والمالية الهائلة والاعتماد الضار على الغرباء. وقد تُجبر النساء والفتيات أثناء الفرار على ممارسة الجنس مقابل المرور الآمن والغذاء والمأوى والوثائق. ومن المعروف أن المسؤولين الحكوميين (مثل مسؤولي الهجرة أو حرس الحدود) والمهربين والقراصنة وأعضاء الجماعات المسلحة واللاجئين الذكور يسيئون معاملة النساء اللاجئات أثناء العبور. وقد تُجبر النساء اليائسات على ممارسة أنشطة غير قانونية، مما يعرضهن لخطر ملاحقة السلطات لهن. وإذا دُمرت المنازل وأجلِيت الأسر، فستتعرض النساء لأضرار بالغة بسبب مسؤوليتهن عن توفير المأوى والغذاء لأسرهن. وتتعرض النساء والفتيات حتى في “الملاذات الآمنة” المفترضة، مثل مخيمات اللاجئين، لخطر الاستغلال الجنسي من الذين يتحكمون في الوصول إلى الغذاء والإمدادات. وإذا غامرن بالخروج من المخيمات للعثور على الماء والغذاء والحطب، فقد يتعرضن للخطر أكثر.

قائمة الضحايا طويلة

ترهيب للنساء والسيطرة عليهن
ترهيب للنساء والسيطرة عليهن

وتبقى شعارات مثل “لقد قطعت شوطا طويلا يا عزيزتي” مهينا للملايين من النساء اللاتي يعانين من مصاعب الحرب والنزوح. وتبقى قائمة الانتهاكات والمعاناة التاريخية والحالية للنساء في الحرب طويلة ويتواصل تحديثها باستمرار.

في أحدها أجبر الجيش الإمبراطوري الياباني النساء على العبودية الجنسية خلال الحرب العالمية الثانية. وتختلف التقديرات بأعداد تتراوح من 20 إلى 360 ألفا وحتى 410 آلاف (وفقا للمصادر الصينية). في أوروبا، سُجّل “تجنيد” الفصائل المتحاربة لأعداد كبيرة من النساء خلال الحرب العالمية الأولى إلى “بيوت الدعارة الميدانية”. واستمرت هذه الممارسة في الأراضي الشرقية التي يحتلها الجيش الألماني والقوات المساعدة له. وكانت معسكرات الاعتقال المروعة نفسها مجهزة ببيوت الدعارة.

وكانت الجبهة الشرقية جحيما حقيقيا خلال الحرب العالمية الثانية. وكان الضباط والجنود الألمان ينتهكون حرمة النساء والفتيات، بينما لم يحاول القادة العسكريون وضع حد لهذه الفظائع. وكان الانتقام الروسي فظيعا.

تدمير أمن الأعداء الداخلي وشعورهم بالانتماء الثقافي والعرقي يصبح في الحرب هدفا عسكريا بما يشرّع العنف ضد المرأة

ويبقى العدد الدقيق للنساء والفتيات الألمانيات اللاتي اغتصبتهن القوات السوفيتية أثناء الحرب والاحتلال غير مؤكد، لكن المؤرخين يقدرون أن أعدادهن قد تكون بمئات الآلاف، وربما تصل إلى مليوني ضحية.

وخلال حرب تحرير بنغلاديش في 1971، اغتصب الجيش الباكستاني وما يسمى بقوات رضاكار شبه العسكرية ما بين 200 و400 ألف امرأة وفتاة بنغالية. ولا توجد أرقام دقيقة حول عدد النساء والأطفال الذين تعرضوا إلى الاغتصاب من القوات الصربية في معسكرات الاعتقال المختلفة، وتتراوح التقديرات من 20 إلى 50 ألفا.

وفي شرق الكونغو، يوصف انتشار الاغتصاب وشدته وغيره من أشكال العنف الجنسي بالأسوأ في العالم. ووجدت دراسة أجريت خلال 2010 أن 20 في المئة من الرجال و30 في المئة من النساء أبلغوا عن تعرضهن لعنف جنسي مرتبط بالنزاع، وأن إراقة الدماء الوحشية لم تنحسر بعد.

قد نتفق جميعا على أن الحرب فظيعة وأن النساء والفتيات يعانين من آثارها. لكن علينا أيضا أن نعترف بأن العنف ضد المرأة يتخذ مثل هذه الأبعاد المروعة نظرا لكون النساء في معظم البلدان وحتى في أوقات السلم ضحايا للكراهية المبنية على جنسهن، والازدراء والقهر الديني/التقليدي، وعدم المساواة في الحقوق، ومجموعة واسعة من أنواع التمييز الأخرى. ويتضاعف الظلم وسوء المعاملة في زمن الحرب. وتتمثل إحدى وسائل تجنب أهوال الحرب في ضمان الحقوق المتساوية بين النساء والرجال، وضمان سن القوانين لهذا الغرض، ومتابعتها حرفيا، ومعاقبة من ينتهكونها على النحو الواجب. ويمكن عندها فقط القول إن المرأة قطعت شوطا طويلا.

15