المد والجزر حبل نجاة المزارعين لمكافحة شح المياه في تونس

استخدام المد والجزر من البحر لري المحاصيل بمياه الأمطار من بين أكثر من 60 نظاما من نظم التراث الزراعي العالمي التي اعترفت بها منظمة الأغذية والزراعة.
الجمعة 2024/06/07
أساليب تقليدية بانتظار التكنولوجيا

تونس – تحت أشعة الشمس الساطعة ينتظر المزارع علي القارسي بفارغ الصبر أن تثمر مزارع الخضر والفواكه من جوف الرمال الحارقة فوق مستنقع رطب. وعلى الرغم من انحباس الأمطار لفترات طويلة يأمل المزارع أن يكون الإنتاج وفيرا هذا العام مع دخول فصل الصيف، رغم ندرة المياه.

ومنذ أكثر من عقدين يعتمد علي القارسي على حركة المد والجزر في ري مزرعته بالمياه المخزنة في الرمال، وهي تقنية ابتدعها أجداده الوافدون من بلاد الأندلس في إسبانيا على المدن الواقعة بالشمال وشمال غرب البلاد، ومن بينها بلدة غار الملح في ولاية (محافظة) بنزرت. وغار الملح من المدن الأندلسية رائعة الجمال بمعمارها القديم وأجوائها المنعشة على البحر، وهي تعد من أشهر المناطق السياحية التي تجذب التونسيين إلى الاصطياف.

ولكنها تعرف أيضا بمزارعها الممتدة فوق الأراضي الرطبة وعلى الشواطئ الرملية والمشهورة بتسمية “القطعايا”، لكونها محددة بمساحات ضيقة ومتجاورة. وتقع مزرعة علي القارسي فوق منطقة رطبة بجوار سفح جبل ومرتفعات مطلة على البحر المتوسط وتحدها من الخلف بحيرة.

ويروي القارسي لوكالة الأنباء الألمانية وهو ينبش في الرمال “المنطقة كانت عبارة عن جزر صغيرة محاطة بمياه البحر المالحة ولكن أجدادنا لاحظوا أنها تنتج أعشابا طبيعية، وهو ما أدى إلى التفكير في توسيع تلك الجزر وتحويلها إلى أراض قابلة للاستغلال الزراعي”.

وتابع المزارع “لقد بذلوا مجهودا جبارا في جلب الرمال من الشواطئ ثم غمروا الأراضي بطبقة رملية وأحاطوها بستائر من القصب للحد من قوة الرياح التي تهب من البحيرة من أجل حماية التربة والمزروعات”.

pp

وقبل عائلة القارسي قدم الأندلسيون إلى البلدة في منتصف القرن الـ17 أثناء الهجرات المتتالية من إسبانيا. وشيدوا البنايات والموانئ وامتهنوا مهنة الصيد واستصلحوا الأراضي الزراعية.

ويمكن رؤية بقايا المنشآت التي شيدوها مثل الميناء القديم وورشات لصنع القوارب وقلعة تتوسط المدينة ومدفع ضخم بواجهة البحر. وكانوا أول من اعتمد حركة المد والجزر في الري في الجهة وتوارثها المزارعون حتى القرن الحادي والعشرين.

ويعد استخدام المد والجزر من البحر لري المحاصيل بمياه الأمطار من بين أكثر من 60 نظاما من نظم التراث الزراعي العالمي التي اعترفت بها منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة.

ويسمى هذا النظام أيضا “الرملي”، أي الزراعة على التضاريس الرملية. وتسقى محاصيل الرملي، بمياه الأمطار العذبة التي تطفو على سطح مياه البحر المالحة وتصلها من خلال حركة المد والجزر.

ويعمل علي القارسي على استعادة هذا النظام والاستفادة منه لمجابهة شح المياه والأمطار وتغير المناخ.

ويقول فاضل بكار، وهو مدير مشروع في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، “هذا النظام سيساعد على التكيف بهذه الطريقة البارعة مع تغير المناخ ونظم الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية، كما سيساعد على ضمان التوازن الاجتماعي في المنطقة فيما يتعلق بإدارة الموارد وإنتاج الأغذية والحفاظ على الممارسات التي تضمن الأمن الغذائي في المنطقة”.

وأبرز ملامح هذا النظام هي أن النباتات تزرع في الأرض الرطبة فوق طبقة رملية إضافية بعمق 70 سنتمترا قياسا إلى مستوى سطح البحر. وتخزن هذه الطبقة تلقائيا مياه الأمطار العذبة التي تهطل على مدار العام.

وفي حين تتغذى النباتات بشكل مباشر من مياه الأمطار في موسم الوفرة، فإنه في حالات الانحباس تدفع حركة المد والجزر المياه المالحة على سطح البحر إلى الطبقة السفلية للأراضي الزراعية لتضغط بدورها على الطبقة الرملية الرطبة في الأعلى. وتدفع الطبقة الرملية المياه العذبة المخزنة إلى النباتات في السطح لتغذيها.

ولهذا يقبل المزارعون على الزراعة في الأراضي الرملية الرطبة على مدار العام بفضل توفر المياه المخزنة من الأمطار. لكن مع مرور الزمن تضرر منسوب المياه العذبة بسبب الانحباس الطويل للأمطار وتغير المناخ. وأثّر هذا على وفرة الإنتاج وجودته.

ويقول المزارع “في العهود القديمة كانت هناك وفرة في المياه؛ لأنه بالإضافة إلى تهاطل الأمطار كانت المياه تأتي أيضا من وادي مجردة قبل تغيير مساره. الرطوبة في الأرض كانت مضمونة”.

ويتابع بتحسر “في الظروف الطبيعية تعد هذه الأراضي كريمة وهي تتمتع بإنتاجية عالية تضاهي الأراضي السقوية. وهي لا تهدر جهد مالكها”. ويقول المزارعون في البلدة إن محاصيل الزراعة الرملية من الفواكه تحمل مذاقا فريدا.

pp

لكن هذا الكرم ولى مع سنوات الوفرة في الأمطار، حيث تقلصت كمية المياه إلى ما دون الحد الأدنى. وبسبب تأثيرات التغير المناخي والإجهاد المائي تعد تونس من بين أكثر الدول المهددة بندرة المياه في حوض البحر المتوسط.

وأدى تراجع التساقطات إلى انحسار مخزون المياه في السدود إلى مستوى الثلث من إجمالي طاقة الاستيعاب. ونتيجة لذلك قررت السلطات بشكل مؤقت حظر استخدام مياه السدود في الزراعات السقوية.

ولكن المزارع الرملية الرطبة في غار الملح تواجه مشكلة مضاعفة؛ فمن جهة لا تستفيد المزارع من مياه وادي مجردة القريب بسبب تغيير مساره، ومن جهة أخرى تعطل التيارات الرملية حركة المد والجزر من حين إلى آخر فلا تصل المياه العذبة بشكل كاف إلى الطبقة الرملية، ما يجعل النباتات عرضة أكثر للمياه المالحة.

ويقول علي القارسي “أصبحنا مرتبطين بمخزون المياه الآتي من الأمطار فقط. ونحن اليوم نعاني من الجفاف للموسم الخامس على التوالي. وبسبب نقص الأمطار أصبحت نسبة الملوحة في مستوى أعلى في التربة وهذا يعوق نمو النباتات ويؤثر على الإنتاج والإنتاجية”.

ومع ذلك مازالت المزارع الرملية الرطبة تقاوم التغير المناخي بما توفر من كميات محدودة من المياه المخزنة في التربة. ويحاول القارسي وباقي المزارعين المجاورين له التحايل على الوضع بالتبكير في موسم الزراعة لاستغلال فترة الذروة في موسم الأمطار. ويقول القارسي “في السابق كانت هذه الأراضي الرطبة تنتج على مدار الموسم. الآن يتعين عليّ التأقلم مع الوضعية الجديدة”.

7