المخاوف من الإسلاميين تعيق تعميم تدريس اللغة العربية في فرنسا

توسيع تعليم العربية يصطدم بالشكوك حول احتمال استغلالها لاختراق المؤسسات التعليمية من قبل الإسلاميين.
الخميس 2025/05/29
المشكلة لا تتعلق باللغة في حد ذاتها، بل ببعض من يتكلمون بها

باريس- رغم الاعتراف المتزايد بأهمية اللغة العربية في فرنسا، سواء بوصفها لغة حضارة أو باعتبارها ثاني أكثر اللغات المحكية في البلاد، إلا أن تعميم تدريسها في النظام التعليمي الفرنسي لا يزال يواجه مقاومة قوية، يغذيها بالأساس هاجس الإسلام السياسي. وكلما طُرحت مبادرة لتوسيع تعليم العربية في المدارس الرسمية، اصطدمت بجدار من الشكوك والاتهامات حول احتمال استغلال هذا التعليم كوسيلة لاختراق المؤسسات التعليمية من قبل الإسلاميين وهو ما ساهم في إبقاء العربية على هامش السياسات التربوية.

وفي الوقت الذي يتحدث فيه ما بين ثلاثة إلى أربعة ملايين نسمة العربية باللهجات العامية في فرنسا، لا تدرس سوى في 410 مدارس إعدادية وثانوية، معظمها تُدرّسها كلغة أجنبية ثانية. وتفيد وزارة التربية الفرنسية بأن عدد المدرّسين لا يتجاوز 222 أستاذا، مقابل 18790 تلميذا يتلقون دروسا في اللغة العربية، وهو رقم يشكل ارتفاعًا مقارنة بـ11 ألفا عام 2017، لكنه يظل هامشيًا مقارنة بـ5.6 مليون تلميذ في المرحلة الثانوية، و41 ألفا يتعلمون الصينية.

ويرى محمد عطوي، وهو مدرّس لغة عربية في ستراسبورغ، أن هذا الحضور الضعيف لا يعكس الواقع، حيث إن الطلب مرتفع، لكنه غير ملبّى، ويقول “رغم الطلب القوي، لم يبلغ يومًا تدريس اللغة العربية مستويات متقدمة.” ويعبّر جيروم فورنييه (ناشط نقابي) عن هذا النقص الواضح حين يقول إن تعليم العربية “غير مقدم بالشكل الكافي قياسا بالطلب،” مشيرا إلى غياب الإرادة الوزارية لتطويره.

ولفهم هذه الظاهرة لا بد من العودة إلى الخلفيات التاريخية والسياسية التي تحكم العلاقة بين الدولة الفرنسية واللغة العربية. فمنذ نهاية الحقبة الاستعمارية ارتبطت اللغة العربية في الوعي الجمعي الفرنسي بالإسلام، وبالضواحي الفقيرة ذات الأغلبية المهاجرة من شمال أفريقيا. وهذه الصورة النمطية رسّختها مراحل متعددة من التوتر الاجتماعي، تفاقمت مع صعود التيارات السلفية والجهادية ومع تكرار الهجمات الإرهابية التي شهدتها فرنسا في العقدين الأخيرين، وهو ما جعل أي استخدام علني أو رسمي للغة العربية يُقابل بريبة.

ويرى الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا أن المشكلة لا تتعلق باللغة في حد ذاتها، بل بمن يتكلمون بها، مشيرا إلى أن النخب الفرنسية كثيرا ما تنظر إلى العربية كأداة أيديولوجية، وليست كوسيلة ثقافية أو علمية. ويقول “ما يُخيفهم ليس تعليم العربية، بل رمزية متكلميها. وهذا جوهر المأزق الفرنسي مع الإسلام.”

وفي عام 2018 أصدر معهد مونتين، وهو من أبرز مراكز الأبحاث الفرنسية، تقريرا أشار فيه إلى أن دروس اللغة العربية “أصبحت وسيلة للإسلاميين لجذب الشباب،” داعيا إلى تنظيمها ضمن الإطار الرسمي للدولة. ورغم أن وزير التربية آنذاك، جان ميشال بلانكير، أعرب عن دعمه لتوسيع هذا التعليم، إلا أنه سرعان ما وُوجه باتهامات من تيارات يمينية متطرفة بأنه يسعى إلى “أسلمة المدارس”. ولم يكن رد الفعل مجرد تحفظ، بل تحوّل إلى حملة سياسية ووسائل إعلامية دفعت المشروع إلى التراجع.

◙ العربية ينبغي أن تُعتبر لغة حضارة ولغة عمل لا لغة طائفية ويجب إلى فصل النقاش التربوي عن التجاذبات السياسية

ولعل أبرز مظاهر هذه المفارقة تظهر اليوم في تركيبة المدارس التي تدرّس العربية. فوفقًا لوزارة التربية تُدرّس اللغة العربية غالبًا كلغة أجنبية ثانية، وغالبًا ما تُقدَّم ضمن برامج اختيارية محدودة النطاق، منها ما يسمى بـ”برامج اللغات الأجنبية الدولية”، التي تعتمد على مدرّسين من دول شريكة مثل المغرب و الجزائر وتونس.

وتقول غيلين دافيد، الأمينة العامة لاتحاد المعلمين، إن هذا النموذج “لا يصل إلى عدد كبير من الأطفال، رغم وجود 60 ألف تلميذ يستفيدون منه.” وفي الوقت ذاته يُلاحظ أن اللغة العربية تلقى حضورا في مدارس النخبة، بينما يُقصى منها أبناء الضواحي.

وتشير نسرين الزهر، مديرة مركز اللغة والحضارة العربية في معهد العالم العربي بباريس، إلى أن تعليم اللغة العربية يتم في مدارس راقية مثل هنري الرابع ولويس لو غران، بينما تغيب عن المدارس الواقعة في أحياء المهاجرين، رغم أن أبناء تلك المناطق هم الأكثر حاجة إليها. وتضيف “هناك جدل دائم حول تدريس العربية في حي يقطنه عرب، وهل هو شكل من أشكال الانغلاق الطائفي، بينما الرأي المضاد يقول إنه قد يكون وقاية من التطرف.”

وينعكس هذا التوتر على كل مستويات النقاش العام، فحتى حين أشار تقرير حكومي صدر مؤخرًا حول الإسلام السياسي إلى أهمية إدماج تعليم العربية في المدرسة الجمهورية “تفاديًا لاحتكارها من قبل المدارس القرآنية،” سارع وزير الداخلية برونو روتايو إلى الرد بأن “الأولوية يجب أن تكون لتعليم اللغة الفرنسية،” متجنبًا الخوض في مقترح التقرير، ومجددًا التأكيد على الرؤية الأمنية المهيمنة على الملف.

ورغم جهود بعض الفاعلين التربويين، فإن الوضع لا يبدو في طريقه إلى التغير. وتقول عائشة، وهي مدرّسة في المرحلة الثانوية، إنها لم تلاحظ أي تقدم يذكر، مطالبة بأن تُدرَّس العربية مثل أي مادة أخرى، بلا تهويل أو تسييس. وتضيف “اللغة ليست المشكلة، المشكلة في المواقف السياسية التي تحيط بها.”

وتؤكد صوفي فينيتيتاي، الأمينة العامة لاتحاد المعلمين، أن تعليم العربية لا يحظى بالأهمية اللازمة داخل وزارة التربية، مشيرة إلى أن الأمر يتجاوز الميدان التربوي ليمس رؤية الدولة للهوية الثقافية الفرنسية نفسها. وتقول “حين تعرقل المخاوف الأمنية سياسة لغوية، فذلك مؤشر على أزمة أعمق في النظام التعليمي.”

ويرى غالب بن شيخ، رئيس مؤسسة الإسلام في فرنسا، أن العربية ينبغي أن تُعتبر “لغة حضارة ولغة عمل”، لا لغة طائفية. ويدعو إلى فصل النقاش التربوي عن التجاذبات السياسية، مشددًا على أن تعليم اللغة العربية في المدارس العمومية الفرنسية لا يعني التخلي عن القيم الجمهورية، بل تأكيدها من خلال الاعتراف بالتنوع.

لكن هذا الخطاب لا يبدو كافيًا لتغيير المواقف السائدة. ففي ظل التقدم الانتخابي لليمين المتطرف، ومع تزايد الخطاب الشعبوي الذي يربط كل مظهر ثقافي عربي بالإسلاموية، يجد السياسيون صعوبة في تبني سياسات تقدمية في هذا المجال، خوفًا من أن يُتَّهَموا بالتساهل مع تيارات الإسلام السياسي. وتُظهر التجربة الفرنسية في هذا المجال أن تعليم اللغة العربية ليس مجرد قرار تربوي، بل هو مرآة لصراعات الهوية والانتماء.

7