المخابرات الأميركية تستعيد بعضا من مصداقيتها في أوكرانيا بعد إخفاقها الكبير في العراق

أثّرت إخفاقات حرب العراق على وكالات التجسس الأميركية وشكّلت جيلا من ضباط المخابرات. ويعمل هؤلاء اليوم على دفع عملية إعادة تنظيم كبيرة لمجتمع الاستخبارات الأميركي وتعزيز الإصلاحات الرامية إلى السماح للمحللين بتقييم المصادر بشكل أفضل وتحدي الاستنتاجات النابعة عن تحيز محتمل.
واشنطن - ألحقت التقارير الخاطئة حول برامج الأسلحة النووية والبيولوجية والكيماوية في العراق ضررا فادحا بمصداقية المخابرات الأميركية، إلا أن صحة تنبؤاتها بالغزو الروسي لأوكرانيا أعاد إليها البعض من مصداقيتها.
وقُتل ما يصل إلى 300 ألف مدني في عقدين من الصراع في العراق، حسب تقديرات جامعة براون. وخسرت الولايات المتحدة 4500 جندي وأنفقت ما يقدر بنحو 2 تريليون دولار على حرب العراق والحملة التي تلتها فيه وفي سوريا ضد تنظيم الدولة الإسلامية الذي احتل مساحة شاسعة من البلدين بعد انسحاب الولايات المتحدة الأوّلي سنة 2011.
وجعلت الإخفاقات من “أسلحة الدمار الشامل” شعارا لا يزال المنافسون والحلفاء يستخدمونه، حتى قبل الغزو الروسي لأوكرانيا الذي تنبأت به المخابرات الأميركية.
تقارير خاطئة
اعتبرت مديرة المخابرات الوطنية الأميركية أفريل هينز في بيان أن مجتمع الاستخبارات قد تبنى معايير جديدة للتحليل والإشراف.
وقالت هينز إن الوكالة تعلمت دروسا مهمة إثر تقييمها الخاطئ لبرنامج أسلحة الدمار الشامل في العراق سنة 2002. وأكّدت سعيها لاستخلاص الدروس التي تسمح لها بتطوير نفسها في خدمة الأمن القومي.
ووفقا لاستطلاع جديد أجراه مركز نورك لبحوث الشؤون العامة التابع لوكالة أسوشيتد برس فإن 18 في المئة فقط من الراشدين في الولايات المتحدة يقولون إن ثقتهم في وكالات الاستخبارات الحكومية كبيرة، فيما لدى 49 في المئة “بعض” الثقة واعتبرها 31 في المئة شبه منعدمة.
وأمر الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش بغزو أفغانستان بعد وقت قصير من هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، حيث تورّطت حركة طالبان الحاكمة في إيواء زعيم القاعدة أسامة بن لادن وسمحت للجماعة بإدارة معسكرات تدريب. وسرعان ما تحوّلت إدارة بوش إلى التحذير من العراق الذي كان يُعتبر منذ فترة طويلة مهددا للمصالح الأميركية في الشرق الأوسط.
وكان من المعروف أن العراق سعى لامتلاك سلاح نووي في الثمانينات وكان بحوزته برامج أسلحة كيماوية وبيولوجية بنهاية حرب الخليج في 1991. وقد اتُهم بإخفاء تفاصيل هذه البرامج عن المفتشين الدوليين قبل طردهم في 1998.
وقالت إدارة بوش إن حكومة صدام حسين كانت تخفي البرامج عن المفتشين بعد أن عادوا إلى البلاد في 2002 ولم تجد أي دلائل عن استئناف الإنتاج.
ويزعم تقدير استخباراتي أميركي نُشر في أكتوبر 2002 أن العراق قد فكر في شراء يورانيوم من النيجر وأنابيب ألمنيوم لأجهزة الطرد المركزي، وأنه كان يبني مختبرات أسلحة متنقلة، وأنه يفكر في استخدام طائرات دون طيار لنشر السموم القاتلة، وأن له مخزونات من الأسلحة الكيماوية بما يصل إلى 500 طن.
كما أشار بعض المسؤولين الأميركيين إلى أن للمسؤولين العراقيين صلات بقادة القاعدة رغم وجود أدلة على كراهية عميقة متبادلة.
18
في المئة فقط من الراشدين في الولايات المتحدة يقولون إن ثقتهم في وكالات الاستخبارات الحكومية كبيرة
وبرز الخطأ في هذه الادعاءات في غضون أشهر من الغزو، حيث لم يُعثر على أي مخزون. وحوّلت المراجعات اللاحقة اللوم على معلومات قديمة، وافتراضات خاطئة، ومزيج من المصادر غير المطلعة.
وكرر بوش النتائج الاستخباراتية الخاطئة قبل الحرب، كما فعل وزير الخارجية كولن باول في خطاب تاريخي في فبراير 2002 أمام الأمم المتحدة.
وقال الكولونيل المتقاعد لاري ويلكرسون الذي كان آنذاك رئيس أركان وأصبح ناقدا بارزا لإدارة بوش، إن وزير الخارجية الأسبق “قال إنه سيذهب إلى قبره مكبّلا بأغلال العراق”. وتوفي باول في 2021.
ولا يزال الجدل قائما حول ما إذا كانت إدارة بوش أمرت بالغزو دون التقارير عن أسلحة الدمار الشامل.
وقال متحدث باسم البيت الأبيض لصحيفة واشنطن بوست في 2006 حين انزلق العراق في تمرد عنيف إن بوش “اتخذ قراره بخوض الحرب في العراق بناءً على المعلومات التي قدمها له مجتمع الاستخبارات”.
ويجادل بعض مسؤولي المخابرات السابقين بأن إدارة بوش مغّطت المعلومات المتاحة لإثبات وجوب الحرب، وخاصة في ما يتعلق بالعلاقات المزعومة بين العراق والقاعدة.
وكان الكونغرس يناقش بالفعل التغيير الشامل لمجتمع الاستخبارات الأميركية بعد هجمات 11 سبتمبر، وهو فشل استخباراتي يُعزى جزئيا إلى نقص تبادل المعلومات بين وكالة المخابرات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي.
وأنشأ المشرعون في 2004 مكتب مدير الاستخبارات الوطنية للإشراف على الوكالات الأخرى، ونقلوا وظيفة القيادة هذه بعيدا عن وكالة المخابرات المركزية.
وسيطر المكتب على الإحاطة الاستخباراتية اليومية المقدمة إلى الرئيس ومجلس الاستخبارات الوطني، الذي يتألف من كبار محللي مجتمع التجسس.
ويقول المؤيدون إن للمكتب القدرة على التحكيم بين الوكالات الأخرى، التي غالبا ما تتمتع بمهارات وثقافات مختلفة. لكن آخرين ينتقدونه باعتباره طبقة بيروقراطية غير ضرورية.
وجددت وكالة المخابرات المركزية برنامجها التدريبي للمحللين للتأكيد على دراسة البدائل واستخدام “الفرق الحمراء” التي تتحدى الاستنتاجات. كما فرضت مزيدا من تبادل المعلومات حتى يتمكن المحللون من تقييم مصادر تقارير محددة أكثر.
وقال مايكل ألين الذي خدم في البيت الأبيض في عهد بوش وألّف كتاب “أحمر وامِضٌ” حول إصلاح المخابرات في2004، إن المسؤولين الأميركيين أصبحوا يقبلون أكثر الاختلافات في الرأي داخل المخابرات إثر غزو العراق.
وحدد مثالَ التقييم الأخير لوزارة الطاقة بأن فايروس كوفيد قد تسرب من مختبر صيني على الأرجح. ويدعم مكتب التحقيقات الفيدرالي فرضية التسرب في المختبر، لكن وكالات أخرى حددت احتمال أن الفايروس من المحتمل أن يكون انتقل من الحيوانات إلى البشر أو رفضت اتخاذ موقف.
وقال ألين إن الولايات المتحدة تعلمت ألا تعتمد المعلومات الاستخباراتية دون دراسة الأساس الذي بُنيت الاستنتاجات عليه والاستماع إلى وجهات نظر الوكالات المختلفة في مجتمع الاستخبارات.
نقطة مضيئة

كانت أوكرانيا نقطة مضيئة للاستخبارات الأميركية، حيث قدّمت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن معلومات إلى كييف لتعزيز دفاعاتها ورفعت السرية عن نتائج الاستخبارات حول النوايا الروسية لمحاولة التأثير على موسكو وحشد دعم الحلفاء.
واعتقدت وكالات التجسس خطأ أن القوات الأوكرانية ستسقط في غضون أسابيع بينما توقعت بشكل صحيح نية روسيا للغزو.
وضغط النائب الديمقراطي جيسون كرو أثناء وجوده في الكونغرس لذلك على الوكالات لمراجعة كيفية تقييمها لقدرة حكومة أجنبية على القتال. وتوقعت المخابرات قبل عامين خطأ أن الحكومة المدعومة من واشنطن في كابول لن تسقط بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان.
وقال كرو “عشنا مع أشباح العراق طوال عقدين وأثر ذلك على مصداقيتنا. تسنح الآن لنا فرصة أفضل لتعلم دروس الماضي للمضي قدما”.
لكن تلك الأشباح باقية. وقال كرو من مكتبه خلال مقابلة أجريت معه مؤخرا إنه يفهم حدود ما يمكن أن يفعله الجيش وأهمية استخدام القوات المسلحة بشكل صحيح.
وأكّد أنه يسترجع التحاقه بالحرس الوطني في ويسكونسن بعد تخرّجه من المدرسة الثانوية والانتقال إلى الخدمة الفعلية بعد 11 سبتمبر.
وأشار إلى صورة معلقة على الحائط مقابل الرف مع تذكاراته من حرب العراق. وكانت صورة جمعته بأصدقائه في فورت براغ، وهي قاعدة عسكرية في نورث كارولاينا، قبل ذهابهم إلى الشرق الأوسط. وقال إن “هناك رجالا في تلك الصورة ماتوا، ولم يعودوا هنا. أفكر فيهم أيضا”.