المجتمعات أمام "لحظة الحقيقة" للتخلص من خرافة الوفرة

بدأت الدول العربية في اتخاذ إجراءات صارمة للتقشف، ووجد الخليجيون أمام العديد من المشكلات أسوة ببقية دول العالم. كما ارتفعت مشكلات الوافدين العرب الذين كانوا أول من أحس بهذه التغيرات منذ سنوات لكنها اليوم باتت تطال الجميع بتداعياتها.
لندن - تم تسريح طارق (39 عاما) من عمله كمدير تجاري لماركة سيارات مشهورة في فرعها بالعاصمة القطرية الدوحة بعد إغلاق الفرع بسبب تداعيات فايروس كورونا.
واضطرت زوجته ليندا (36 عاما) التي تعمل في القطاع الصحي الحكومي إلى توقيع عقد تعود بموجبه إلى القطاع الخاص. ورغم أن بنود العقد تنص على أن مرتبها زاد فإن العكس هو ما حصل تماما إذ باتت تشتغل بنظام المناولة وخيرت السلطات الموظفين، مواطنين ووافدين، بين القبول أو الرفض الذي سيترتب عليه الحصول على تعويض وترك العمل. انعكس الأمر على حياة الزوجين المقيمين في الدوحة منذ 4 سنوات واللذين لديهما طفل (3 سنوات) متطلباته الصحية كثيرة وينتظران طفلا آخر في الطريق.
وفي السعودية يتساءل الكثيرون، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، عن سبب الارتفاع المتواصل في أسعار البنزين. ويقول شاب سعودي يدعى ماجد علي ساخرا “نترقب نحن السعوديين في هذا اليوم من كل شهر قبل منتصف الليل تحديث أسعار البنزين، وفي حال ارتفعت الأسعار قد يمتنع البعض عن الأكل والشرب من أجل التوفير”، في إشارة إلى ارتفاع الأسعار في البلاد.
لقد وجدت المجتمعات العربية نفسها أمام “لحظة الحقيقة” للتخلص من عقلية الوفرة الزائفة التي أصبحت غير مقبولة في ظل الوضع الراهن وبدأت أغلب دول المنطقة العربية تتخذ إجراءات تقشفية بالتزامن مع تفاقم الخسائر المالية لاقتصاداتها بسبب تداعيات جائحة كورونا، ما يُنبئ مجتمعاتها بحلول “أشهر عجاف قد يطول أمدُها”.
في ظل الوضع الراهن بدأت أغلب دول المنطقة العربية تتخذ إجراءات تقشفية بالتزامن مع تفاقم الخسائر المالية لاقتصاداتها بسبب تداعيات جائحة كورونا
وتُظهر حملات التقشف أن الإنفاق الكبير، خاصة في دول الخليج الغنية، أصبح شيئا من الماضي.
ووجد الخليجيون أنفسهم أمام مشاكل أسوة ببقية دول العالم، مثلما تتزايد مشاكل الوافدين العرب الذين كانوا أول من أحس بالمشكلة منذ سنوات لكنها باتت تطال الجميع الآن.
وبدأت تأثيرات التقشف تنعكس على المواطن العادي والمقيم على حد السواء، من خلال تخفيض الرواتب والميزانيات العامة وتراجع الفرص المتاحة للاستثمار.
وفي حين أن الحكومة السعودية خفضت بدل “تكلفة المعيشة” الذي كان يحصل عليه موظفو الدولة حافظت على بدل شهري آخر يُعرف باسم “حساب المواطن” ويستفيد منه نحو 12 مليون سعودي ويكلف سنوياً مليارات الدولارات.
ويقول كوينتن دو بيمودان من معهد أبحاث الدراسات الأوروبية والأميركية “إن قطع الإعانات في الوقت الذي يعاني فيه الناس من شح اقتصادي خطوة محفوفة بالمخاطر. لتجنب حدوث رد فعل عنيف تلغي السعودية بدلاً فيما تحافظ على الآخر على الرغم من أنها لا تستطيع تحمل تكاليف أي منهما”.
وحتى الآن تتحاشى السلطات اتخاذ خطوات “قاسية جدا” من شأنها أن تؤثر بشكل مباشر على المواطنين لإدراكها أن القدرة على تحمل مثل هذه التدابير مسألة في غاية الحساسية.
القائم ليس دائما
لطالما لجأت دول الخليج إلى الحوافز الاقتصادية لترسيخ العقد الاجتماعي القائم على قاعدة “المال مقابل الولاء”. وفتح النفط في المنطقة مسارا مختلفا منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن؛ فقد اختلف الوضع الاقتصادي الاجتماعي كليا عما كان سائدا في المنطقة على مدى قرون حيث عرفت المنطقة تحولا من مجتمع يعيش تقريبا على الكفاف إلى مجتمع الوفرة.
واعتمدت الدولة في الخليج على هذا المصدر كليا لعقود، وخلق هذا الاعتماد الكثير من الممارسات والتوقعات الاقتصادية والاجتماعية بل وأفرز قيما لها علاقة بالاستهلاك، وبالنسبة إلى البعض أصبحت تلك القيم والممارسات من تحصيل الحاصل.
وتبنى الخليجيون خرافة تتعلق بأسعار النفط استمرت لفترة وتحكمت في عقول الكثيرين، وهي أن “أسعار النفط تهبط لترتفع، وتتراجع لتعود إلى الصعود من جديد”، وأكدت الأوضاع الأخيرة نهاية هذه الخرافة.
واستثمَرت دول مجلس التعاون الخليجي وفرة الموارد الطبيعية لتحسين حياة مواطنيها وتطوير البنى التحتية والتحضير لمستقبلٍ خالٍ من النفط. وقد حقّقت هذه الدول تقدّماً كبيرا على مستوى الهدفَين الأوّلين، بيد أنّها واجهت الصعاب لتحقيق التقدّم نحو الهدف الثالث، أي تنويع اقتصاداتها.
وأدّى العمل على جعل الريوع الاقتصادية موجّهةً -من خلال الخدمات العامة الموسَّعة والتوظيف الحكومي وعقود الأعمال الحصرية- إلى إضعاف جهود تطوير القطاع الخاص التنافسي والديناميكي القادر على توليد نموّ اقتصادي مستدام في مستقبل ما بعد النفط.
ومنحت الدول النفطية مواطنيها مزايا اقتصادية كبيرة، مقارنة بالدول غير النفطية. ولأن أغلب الأفراد يهتمون برفاههم الاقتصادي والاجتماعي أكثر من أي شيء آخر فإن توزيع الريع يؤمّن للأنظمة القائمة دعمًا شعبيًا يجنبها مخاطر الاحتجاجات.
كما أن تكفّل الدولة بالإنفاق على مواطنيها يدفعها إلى إيجاد فرص عمل كاذبة، بشكلٍ يساهم في نشوء بطالة مقنّعة.
وأصبحت مسألة التنويع الاقتصادي مطلبا ملحّا في الدول الخليجية العربية بسبب التباطؤ الاقتصادي العالمي الذي سبّبته جائحة فايروس كورونا.
ومن جراء تلك السياسة التي تسمى عادة سياسة دولة الرفاه بالمعنى العام تشكلت ممارسات وبنيت سلوكيات وراجت توقعات مفادها أن “القائم دائم” وأن كل تلك الامتيازات الاقتصادية والخدمية التي وفرها سعر النفط المرتفع والسياسات التي بنيت عليه يمكن أن تستمر دون التفكير في اليوم التالي.
اليوم التالي
لم يكن هناك نقص في الدراسات التي كانت تحذر من اليوم التالي أي تراجع أسعار النفط أو إيجاد بدائل للطاقة أو اكتشاف احتياطيات غنية في أماكن أخرى من العالم تقلل من اعتماد السوق العالمية على نفط الخليج. ولكن الأمر لم يكن يؤخذ بالجدية اللازمة لعدد من الأسباب لعل من أهمها: أولا، الخرافة المعتمدة على تاريخية صعود الأسعار وانحسارها، ومن ثم صعودها مرة أخرى. وثانيا لم يكن قد توفر في دول الخليج قرار شد الأحزمة لأن رأس المال السياسي لم يكن متوفرا أو قادرا بشكل عام أو راغبا في تحمل سياسات مالية واقتصادية ترشيدية قد تزيد من مخاطر الصدمة في المجتمع وتنتج توترا اجتماعيا.
ويقول أسامة عبدالخالق الخبير الاقتصادي بجامعة الدول العربية إن “التقشف أصبح سياسة تتبعها كل الدول العربية لضغوط اقتصادية فرضت عليها من الدول الكبرى وحتمت عليها التقشف”.
وعدد الضغوط الاقتصادية على الدول العربية، ومن أبرزها نقص السيولة خاصة في دول الخليج التي أصبحت أكثر الدول تقشفا ودول شمال أفريقيا وإن كانت بدرجة أقل بكثير.
ولفت إلى أن التقشف، خاصة في الخليج، تجلى من خلال تقليص كل المساعدات التي كانت تقدم للمجتمع بما فيها التنمية والمشاريع الصغرى وسياسة الإقراض، إلى جانب تقليل الإنفاق الحكومي وخفض دعم التعليم والصحة.
وبيّن عبدالخالق أن المواطن الخليجي أقل ميلا إلى الثورة رغم زيادة التقشف في بلده لأن الشعب الخليجي لاحظ بنفسه نقص السيولة وتراجع أسعار النفط.
الدول العربية المتعثرة اقتصاديا تملك سوى القليل من الموارد وبنية تحتية ضعيفة ونسب بطالة مخيفة واضطرابات سياسية
وبشأن الآثار الاجتماعية لسياسة التقشف يقول مراقبون إن المواطن الخليجي يجب أن يتهيأ للخروج الطوعي من الاعتماد الكامل على الدولة، ولا شك أنها مرحلة انتقالية صعبة.
وساهمت إجراءات التقشف في التأثير على الاقتصاد السعودي بشكل سلبي حيث ذكر تقرير”لكابيتال إيكونوميكس” أن التقشف المالي الحاصل في السعودية سبّب الكثير من الأذى للاقتصاد؛ إذ يبدو الأثر واضحًا بالنظر إلى المتاجر والمتسوقين فالمحال التجارية شبه فارغة من الزبائن، لأن التقشف أثر على إقبال السعوديين على الاستهلاك بعد بدء الكثير من المواطنين التأقلم مع الوضع الجديد من خلال ضبط موازنة العائلة والمصاريف التي تنفقها على مختلف الحاجيات والكماليات.
ويرى بعض المواطنين أن الوضع الحالي سيسهم في التخلص من الكثير من العادات والممارسات الاستهلاكية التي تعود عليها المواطنون، بدءا من الإنفاق على البضائع الفاخرة والتسوق ببذخ في الدول الأجنبية وصولا إلى السياحة السنوية وسحب القروض واستخدام البطاقات المصرفية وأمور أخرى تعود عليها المواطن بفضل إغداق الحكومة عليه بالرواتب والعلاوات والبدلات والتعويضات والحوافز وأشياء أخرى، وهذا ما أدى بالموظف والمواطن والمجتمع السعودي عمومًا إلى الإدمان على الإنفاق غير الرشيد جراء إيرادات النفط في الأعوام الخمسين الماضية والإنفاق بشكل مفرط جدًا دون اللجوء إلى الادخار.
تعريف جديد للمواطنة
ومن المرجح أن يقبل الخليجيون على مرحلة قد تشهد تدريجياً تغير مفاهيم كثيرة وفي مقدمتها مفهوم المواطنة ليصبح مرتبطا بمدى التزام الفرد بالأداء والمردودية والمشاركة الفاعلة في التنمية والبناء بدل المفهوم المرتبط بمدى الاستفادة من الامتيازات داخل اقتصادات ريعية قد تشهد تحولات كبرى على المدى المتوسط والبعيد.
وتتضح حاجة ملحة إلى تغيير ثقافة المواطن الخليجي خاصة في علاقته بالعمل أو الاستهلاك؛ إذ بات من المهم ملاحظة تغيرات متسارعة في المدة الأخيرة أكثر من أي وقت مضى، لاسيما في ما يتعلق بزيادة اختلالات التوازنات الاستراتيجية للتنمية في الدول الخليجية التي تسعى بدورها إلى أن تصبح مراكز إقليمية تجارية ومالية تمثل بديلاً استراتيجياً بعيد المدى يعوض هذه الدول الاعتماد المفرط على منظومة اقتصاديات النفط.
وتوصلت دراسة أعدها مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية (MenaCC)، حول “توقعات تداعيات الجائحة على مستقبل ازدهار دول مجلس التعاون الخليجي”، إلى نتائج مفادها أن مجمل البلدان الخليجية ستتأثر بشكل متفاوت يصل إلى توقع تغيرات جوهرية في حياة الخليجيين على المدى المتوسط؛ إذ من المرجح أن تؤثر تداعيات الجائحة على الخطط التنموية الكبرى وعلى تقدم المشاريع وأولوياتها وعلى سوق العمل ومجمل القطاعات.
ورغم أن البلدان الخليجية ستتكبد بعض الخسائر جراء الوباء مع توقع كلفة إنقاذ اقتصادي واجتماعي باهظة، إلا أن استفادتها المحتملة والمستقبلية قد تكون أكبر خاصة على مستوى توقع زيادة التنافس الخليجي على تحقيق الاكتفاء الذاتي وتقليص التبعية للخارج وترشيد استهلاك الموارد وإصلاح الاختلالات لاسيما على مستوى التركيبة السكانية المستنزفة للثروات، فضلا عن توقع زيادة التعويل على الطاقات المحلية بدل الأجنبية وتمكين الشباب ودعم التنافس على الاستثمار المحلي والإبداع والابتكار من أجل تنويع مصادر الثروة.
اقتصاد استهلاكي
وعلى الرغم من أن شكل حياة الرفاه المتوقع في دول الخليج قد يتغير إلى الأبد تدريجيا إلا أن الخليجيين قد لا يواجهون تقشفاً موجعاً كما هو متوقع في دول أخرى، وقد يعتبرون في العالم العربي أكثر حظاً من غيرهم في تجاوز الصدمة التي سيخلفها الوباء.
لكن كيف يمكن لبلد عربي القيام بإصلاحات عميقة ذات تبعات اجتماعية قاسية إذا كان اقتصاده في تراجع أو يعاني الركود وليس لديه مصدر تمويل لشبكات أمان اجتماعية تحمي من اتساع دائرة الفقر والفاقة؟
تتراكم جبال الديون في الدول العربية، لاسيما بعد تراجع أسعار النفط التي تشكل ما يمكن تسميته العمود الفقري للصادرات في معظم الدول العربية. ويفيد تقرير أعدته شركة “ستاندارد آند بورز” للتصنيف الائتماني بأن إجمالي حجم الديون العربية المتراكمة الداخلية منها والخارجية ارتفع إلى أكثر من 1000 مليار دولار بحلول عام 2020.
ولا تملك الدول العربية المتعثرة اقتصاديا والمستوردة للنفط سوى القليل من الموارد مع بنية تحتية ضعيفة ونسب بطالة مخيفة واضطرابات سياسية في بعض الحالات.
وفي ظل شح التحويلات المالية من الخارج ستواجه هذه الدول صعوبات في الحفاظ على مبادلاتها التجارية مع الخارج نتيجة تآكل أرصدتها من النقد الأجنبي.
ويشترك الاقتصاد العربي في أمرين: الاعتماد على الاقتصاد الاستهلاكي وعدم تطويره منذ فترة استقلال الدول عقب الاستعمار، إلا ما ندر.
التقشف أصبح سياسة تتبعها كل الدول العربية لضغوط اقتصادية فرضت عليها من الدول الكبرى وحتمت عليها ذلك
وقد كانت تلك الإستراتيجيات ناجحة نوعًا ما في الفترات الأولى لما بعد الاستعمار، كون أغلب الدول العربية تملك ثروات طبيعية، وبالتالي كانت الحكومات تستهلك ما يتم إنتاجه فعلًا، وكانت العملية سهلة لأن السكان ببساطة كانوا قليلي العدد. ففي عام 1950 كان تعداد الدول العربية مجتمعة 112 مليون نسمة، وهو رقم يقترب من سكان مصر اليوم وحدها! وارتفع إلى أربعة أضعافه ليصل إلى 412 مليونا عام 2000 ومن المتوقع أن يصل إلى 600 مليون عام 2029.
وفي العراق يضم قطاع الدولة المشوه والمتضخم عددًا كبيرًا جدًا من موظفي الخدمة المدنية وصناعات حكومية ضعيفة ومكتظة بالموظفين، وتوفر الصادرات البترولية ما يقرب من 85 في المئة من الإيرادات الحكومية و80 في المئة من عائدات النقد الأجنبي.
ويمتلك العراق مثلا قطاعًا حكوميًا كبيرًا للغاية وغير فعال وشركات مملوكة للحكومة توظف نحو 6.5 مليون موظف ومتقاعد، وتستهلك جزءًا كبيرًا من الإيرادات مع القليل من الإنتاج. كما تنطوي المستويات المرتفعة من الإنفاق العسكري والأمني على إهدار كبير، والأسوأ من ذلك كله أن هذا القطاع الحكومي يميل للتضخم إلى حد الانفجار، وتتداخل العوامل السياسية والضغط الشعبي ليس لإجراء إصلاحات اقتصادية وإنما لتعيين أعداد جديدة وهو ما يضعف الاقتصاد ويثقل كاهل الموازنة، فالحكومة العراقية تنفق 75 في المئة من الموازنة على الجانب التشغيلي غير النافع، بينما تقترض الباقي للموازنة الاستثمارية التي لا يُنفذ منها سوى 45 في المئة في أحسن الظروف ودون كفاءة تذكر!
وفي تونس لا يختلف الحال كثيرًا، فالطريقة ذاتها تُدار بها الدولة؛ فضمن موازنة عام 2020 التي تزيد بنسبة 15 في المئة عن سابقتها والبالغ حجمها 17 مليار دولار بلغ الإنفاق على الأجور 40 في المئة من مجموع الموازنة، مع 22 في المئة إضافية على الديون، ما يعني أن ثلاثة أرباع الموازنة يُنفق بلا مردود حقيقي.