المؤتمر السنوي للتعليم: ما تستثمره اليوم في التعليم تجنيه غدا أمنا وتنمية

أبوظبي - حمل المؤتمر السنوي السادس للتعليم 2015، الذي ينظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بأبوظبي، شعار “نحو منظومة تعليمية عصرية في دولة الإمارات العربية المتحدة”.
ومن منبر هذا اللقاء السنوي، الذي انعقد في أبوظبي يومي 27 و28 أكتوبر الجاري وعبر أربع جلسات كانت حافلة بالنقاش والتفاعل، أكّدت نخبة من المسؤولين والخبراء والعاملين في القطاع التعليمي، على ضرورة دمج التعليم بالتنمية، كرهان أساسي لكسب التحديات التنموية والاجتماعية وكترياق فكري وأمني، ضدّ مختلف التهديدات الطارئة والتي تستهدف بالأساس الأجيال الناشئة والشابة؛ وما ينطبق على دولة الإمارات، ينطبق على مختلف الدول العربية.
وأكّد على ذلك جمال سند السويدي، مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، في كلمته الافتتاحية للمؤتمر، حين قال إن المناقشات والمداخلات، سيكون لها أثرها الإيجابي في بلورة رؤية واضحة، حيث يتبنى المؤتمر في دورته الحالية رؤية شاملة للعملية التعليمية في علاقتها بالتنمية؛ مؤكدا أن جلساته والطروحات التي تتخللها، تقدّم اجتهادات جديدة بمعايير أكاديمية عالمية بهدف الارتقاء بهذه العملية.
وبيّن السويدي أن المؤتمر فرصة للجمع بين صنّاع القرار والأكاديميين والمدرسين وأصحاب الأعمال؛ بالإضافة إلى كونه يهتم بتلبية طموحات القيادة الإماراتية بترسيخ التعليم القائم على الابتكار والإبداع، للوصول إلى “رؤية الإمارات 2021” بأن تكون دولة الإمارات العربية المتحدة من أفضل دول العالم في العيد الخمسين لتأسيسها.
وقال “إن لدينا مشروعات تنموية طموحة للمستقبل تحتاج إلى تعزيز دور التعليم وتعميقه في خدمة التنمية، عبر إعداد كوادر بشرية مؤهلة وقادرة على التعامل مع أعقد تكنولوجيات العصر، ولعل مشروع الفضاء الإماراتي هو أحد الأمثلة المهمة على ذلك. إضافة إلى مشروع الطاقة النووية للأغراض السلمية، ومشروع الطاقة المتجددة، وغيرها. وذلك ضمن فلسفة أساسها العمل على صناعة المستقبل عبر توظيف الطاقات النووية التي تسلّحت بتعليم عصري متناغم مع حاجاتنا التنموية”.
وتزامن انعقاد المؤتمر السنوي للتعليم مع انعقاد مؤتمر ثان، موضوعه لا يقل أهمية، وبل ويتنزل في نفس السياق، تحدّث عن “بناء الدولة: تحدّي ما بعد انتهاء الصراعات الداخليّة في دول التغيير العربية”؛ وفي افتتاحه تطرق السويدي إلى دول التغيير العربي، والدول العربية التي تشهد صراعات، مشيرا إلى أن مفهوم “بناء الدولة” بعد انتهاء الصراعات يعني بناء السلام الدائم، وإرساء الأسس اللازمة لذلك؛ ولا يمكن استثناء التعليم من هذه الأسس، بل هو يعدّ أحد روافدها الأساسية. فقد بات التعليم يعتبر أحد المؤشّرات الأساسية التي تعتمده المنظمات الدولية والجهات المختصّة في تحديد مدى تقدّم الدول وتطوّر مجتمعاتها. وباعتباره إحدى الركائز الأساسية في بناء مجتمع قوي البنيان يراهن على العنصر البشري في تطوّره، وضعت دولة الإمارات العربية المتحدة العمل على تطوير التعليم والارتقاء بمخرجاته في مقدمة أولوياتها لأنه الاستثمار الأمثل في حاضر الوطن ومستقبله، في عصر يعتمد على المعارف: استنباطا، واستيعابا واستخداما على السواء.
رؤية أبوظبي الاقتصادية 2030 تقوم على تطوير اقتصاد قوي وحيوي يسير جنبا إلى جنب مع تطوير قطاع التعليم
من هنا أيّد مختلف المشاركين في مؤتمر التعليم دعوة جمال سند السويدي، في كلمته الختامية للمؤتمر، على أن أهمية الأخذ بالتوصيات، التي خرج بها المؤتمر، والتي تؤكد على ضرورة أن يكون التعليم في خدمة عملية التنمية، وأن يكون له دور جوهريّ في تعزيز القيم الإيجابية في المجتمع، والانتماء الوطني والوسطية والاعتدال والتكافل الاجتماعي والمسؤولية الاجتماعيَة وغيرها.
ولم يشكّك السويدي، ولا الخبراء، في أن توصيات المؤتمر القيِّمة ستجد طريقها إلى التطبيق على أرض الواقع؛ من أجل التأسيس لمنظومة تعليمية عصرية أكثر رسوخا في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو هدف يقع على رأس قائمة أولويات القيادة، التي لديها بالفعل حزمة من المبادرات الاستراتيجيَّة لتطوير التعليم، وتكريس عملية النهوض به، وربطه بعملية التنمية وفق المعايير العالميَّة، في ظل حقيقة أساسية مفادها أن التعليم هو عماد التقدم والحداثة.
إنتاجية أفضل
ما تحدّث عنه نظريا جمال السويدي، أكّده عمليا وبالأرقام، في الكلمة الرئيسية للمؤتمر، المهندس حسين إبراهيم الحمادي، وزير التربية والتعليم في دولة الإمارات العربية المتحدة، حين تحدّث عن عوائد التعليم ودوره في التنمية؛ حيث يؤدي التعليم إلى تحقيق إنتاجية أفضل ودخل أعلى للأفراد، بينما يسهم في إزالة الفروق الاقتصادية والاجتماعية بين أفراد المجتمع، وفي تحسين الدخل القومي، ومن ثم إيجاد مجتمع آمن ومستقرٍّ يتمتع بمستوى عال من الرفاهية؛ وهو ما تسعى إليه دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال تبنِّيها رؤية تربوية عصرية تهدف إلى أن تكون من أفضل دول العالم بحلول عام 2021.
وقدّم الحمادي خارطة الأهداف الاستراتيجية لوزارة التربية والتعليم، التي من أهمها تطوير المناهج بما في ذلك إلغاء التشعيب، والاهتمام بالطالب بشكل أكبر؛ من خلال تبنّي مبادرات لاكتشاف مواهبه وإبداعاته وابتكاراته، واستقطاب أفضل الكفاءات، وتطوير قدرات المعلمين وخبراتهم؛ وبعث مواد تعليمية جديدة على غرار مادة مهارات الحياة التي تطبّق اليوم لتتناسب مع التكيّفات العمرية للطالب. فالتعليم النظري مطلوب لكنه لوحده غير كاف. ما يعني الحاجة إلى تدريب وتطبيق عملي لكافة المعلومات الواردة في الكتب على أرض الواقع. يقابلها تطوير لمهارات وقدرات المدرّسين. وطرح عدة أمثلة في هذا الشأن كمباشرة 127 مهندسا العمل في الوزارة حتى يتسنى للطالب استيعاب المواضيع بصورة ميدانية.
وختم حديثه باستحضار النقاط التي ينبغي تحقيقها عند الوصول إلى العام 2021، والتي يأتي في مقدمتها أن تكون دولة الإمارات العربية المتحدة من أفضل الدول عالميا بمؤشر الابتكار العالمي وبمؤشر التنمية الشاملة والمباشرة. فضلا عن وجود قيادة مدرسية عالية، ترخيص المعلمين حسب المعايير المطلوبة، مضي الطلاب في المسارات المتقدمة وحجز مقاعد للنخبة منهم في كبرى الجامعات العالمية.
تناولت جلسات اليوم الأول من المؤتمر مواضيع عديدة تركّزت بالأساس حول موضوع مبادرات تطوير التعليم واستراتيجياته في دولة الإمارات العربية المتحدة، والأبعاد التنموية في استراتيجية تطوير التعليم 2015-2021 في دولة الإمارات العربية المتحدة، وتشجيع المعرفة وترسيخها والفهم للمهارات الأكاديمية وغير المعرفية بين جيل الشباب.
وتحدّث محمد عبدالله البيلي، نائب مدير جامعة الإمارات العربية المتحدة للشؤون العلمية، عن تعزيز التنافسية العالمية لمؤسسات البحث العلمي في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث أكد أهمية التعليم كأحد المحركات الأساسية لرؤية أبوظبي الاقتصادية 2030؛ ذلك أن تطوير اقتصاد قوي وحيوي يسير جنبا إلى جنب مع تطوير قطاع التعليم الذي يرفد سوق العمل بخريجين ذوي مهارات عالية.
وفي ختام اليوم الأول تحدثت باربرا هارولد، عميد مشارك في كلية التربية في جامعة زايد، عن دور القطاع الخاص في دعم البحوث، حيث رأت أن الشركات الخاصة تنجز بحوثا ذات نطاق أوسع؛ من أجل تطوير حلول مبتكرة للمشكلات الاجتماعية، أو تطوير منتجاتها للمحافظة على تفوقها، وأن الجامعات الحكومية تجد نفسها مضطرة، بسبب تقلُّص الدعم الاتحادي، إلى تبنِّي بعض الأساليب التجارية، وتتجه نحو القطاع الخاص للحصول على تمويل وموارد إضافية ووسائل لتطبيق نتائج البحوث الأساسية.
|
التغيير الحقيقي
يبدو أن حماسة المحاضرين وتفاعل المشاركين والحضور في اليوم الأول للمؤتمر السادس للتعليم، ألقيا بظلالهما على اليوم الثاني، الذي افتتح فعالياته بكلمة رئيسية لفاروق الباز، مدير مركز تطبيقات الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن بالولايات المتحدة الأميركية، أكّد من خلالها أن الاهتمام باستراتيجية التعليم من أهم الأشياء التي تصب في مصلحة الأمة العربية، وتأخذ بيدها للنهوض قدما؛ فجميع الدول المتقدمة اليوم، بدأت مسيرتها التطويرية والريادية بإصلاح منظومة التعليم ومؤسساته وتأهيل العاملين فيه، الأمر الذي تسير على خطاه دولة الإمارات العربية المتحدة.
وشدّد على أهمية أن يستجيب التغيير الحقيقي في المنظومة التعليمية لمتطلبات التنمية الحقيقية، والتأهيل الضروري للشهادات الجامعية المطلوبة للتنمية الاقتصادية والثقافية؛ مشيدا بتجربة جمهورية كوريا الجنوبية.
وتطرّق الباز إلى ضرورة طرح سؤال “ما فائدة التعليم في العالم العربي؟”، إذا ما أردنا التغيير الحقيقي والفعلي. وقال “نحن وللأسف ننظر إلى الشهادة بغض النظر عن مستواها الأكاديمي، إلا كتصريح لمباشرة العمل. لكنها تعني وبمنتهى الوضوح والبساطة، أن طالب الجامعة لم يعد بحاجة إلى من يعلّمه وبإمكانه اليوم أن يعلّم نفسه بنفسه”، مؤكدا على أن “المجتمع الراقي هو الذي يتسلّح بالعلم والمعرفة”.
وأعقبت كلمة فاروق الباز بجلسات أخرى تطرّقت بدورها للدور التنموي للتعليم المهني في دولة الإمارات العربية المتحدة؛ حيث تحدث في هذا الموضوع عيسى الملا، المدير التنفيذي لبرنامج الإمارات لتطوير الكوادر الوطنية في الإمارات، عن دعم المسؤولين فيها للتنمية البشرية بمعناها الشامل منذ تأسيسها عام 1971، حيث كان لدى الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان قناعة كاملة بأن الاستثمار الحقيقي يجب أن يكون في الإنسان.
وتحدث الملا عن الأسباب التي ساعدت على تقليص نسبة البطالة على مستوى إمارة دبي من 10.7 بالمئة إلى 2.6 بالمئة في الفترة ما بين عامي 2005 و2014؛ وذلك من خلال إطلاق حزمة من البرامج والمبادرات الخاصة بالتدريب المهني، وتأهيل الباحثين عن العمل بما يتناسب وحاجات سوق العمل.
من جانبه تناول فيلي براند، أستاذ التعليم والتدريب السابق في جامعة هامبورغ بألمانيا الاتحادية، التجربة الألمانية في الاستفادة من التعليم المهني في خدمة التنمية، حيث تم تبنّي ما يسمّى النموذج المزدوج؛ بحيث يتلقى معظم الطلبة تحت المستوى الجامعي في المدارس المهنية تعليما نظريا ما بين يوم ويومين في الأسبوع، ويتلقون تدريبا عمليا في الشركات من ثلاثة إلى أربعة أيام في الأسبوع.
وفي ظل التحديات الراهنة إقليميا ودوليا، وتصاعد الإرهاب الفكري والديني، كان من الطبيعي أن يختتم المؤتمر فعالياته بجلسة مطوّلة عن دور التعليم في حماية الأمن القومي وتعزيز الانتماء الوطني والدفاع عن الوطن، وقد اشترك في المناقشات كلّ من علي بن عبدالخالق القرني، مدير عام مكتب التربية العربي لدول الخليج في المملكة العربية السعودية، واللواء الركن طيار رشاد محمد سالم السعدي، قائد كلية الدفاع الوطني، وعبدالله محمد الشيبة، نائب مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية لقطاع شؤون خدمة المجتمع، الذين أكدوا على أهمية دور التعليم في نشر قيم الوسطية والاعتدال والانفتاح وقبول الآخر، وكذلك في تصحيح المفاهيم الدينية المغلوطة لمواجهة التطرُّف والإرهاب، فضلا عن دوره الأساسي في تعميق الهوية الوطنية، وتعزيز قيم التماسك والتكافل والتعاون والمسؤولية الاجتماعية وخدمة المجتمع.
إطلاق حزمة من البرامج والمبادرات الخاصة بالتدريب المهني، وتأهيل الباحثين عن العمل بما يتناسب وحاجات سوق العمل عوامل ساعدت في تقليص نسبة البطالة على مستوى إمارة دبي من 10.7 بالمئة إلى 2.6 بالمئة في الفترة ما بين عامي 2005 و2014
جاء تفاعل الحاضرين والمشاركين من المعنيين والمدرّسين مع المؤتمر مبشّرا؛ حيث أكّد كثير من المحاضرين أو من المشاركين الذين تحدّثت معهم “العرب”، تضامنهم مع خطة الوزارة وتبنيهم لقوانينها وتحديثاتها المدرجة هذا العام. وهنا أكّد حسن مصطفى، الدكتور في جامعة العين بأبوظبي، أن ما قاله وزير التربية والتعليم يعرض لرؤية مستقبلية ترتبط بواقع دولة الإمارات وليست دخيلة عليها، الأمر الذي يعكس إيجابية كبيرة في إمكانية تحقيق الأهداف المتمثلة بالوصول إلى رؤية “الإمارات 2021”.
من جهتها، قالت فايزة الغضبان، الأستاذة في مدرسة الريادة الثانوية المشتركة، إنه من الهام جدا ما تطرحه جلسات المؤتمر هذا العام حول قضية التطوير والابتكار، فالخطط التدريسية المدروسة بعناية وفق احتياجات العصر، تسهم في بناء الإنسان وتمنحه القدرة على التفاعل المباشر مع احتياجات مجتمعه.
ويقول واثق عبدالوهاب، الأستاذ الجامعي ومنسق المعرفة في أبوظبي لـ”العرب”: كل عام أحضر هذا المؤتمر، نظرا لفائدته الكبيرة في التعرف على آخر التطورات البحثية والتكنولوجية في مجال التعليم، في الإمارات وغيرها من الدول العربية والأجنبية. وهذا الحدث يصيغ خططا للتطوير حول فرعي التعليم والتنمية اللذين اعتمد مؤخرا دمجهما مع بعضهما البعض، بهدف التنمية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية؛ حيث قدّمت جميع الجلسات أوراق عمل حول التطبيق الميداني للمناهج الجديدة والجيدة برأيي. وذلك بعد أن تمّ إدراك أن المناهج القديمة لا تفيد في عملية التنمية ولا تواكب الواقع العملي المعاصر.
أحد الموجهين التربويين، أكّد أن كل تلك الجهود المبذولة في المؤتمر، على مدى سنوات مضت وحتى اليوم، جعلت من مناهج دولة الإمارات العربية المتحدة أقرب إلى العالمية دون أن تفقدها صبغتها المحلية. وأشار إلى أن المؤتمر بجلساته ومحاضراته، حريص كل الحرص على تطبيق أوراق العمل ميدانيا، راصدا أبعاد وتحديات المناهج الجديدة في المدارس والجامعات، في الوقت الذي يضع عينه على النتائج من أجل وضع خطط جديدة. وقد أكّد جميع مشاركيه على العمل بنسق واحد باتجاه رؤية الإمارات 2021، بالاعتماد على تفعيل التعليم لتحقيق التنمية الشاملة.
إقرأ أيضا:
◄ الإمارات تطمح إلى أن تكون بين أسعد عشر دول في العالم