الكُرد مازوخيون بالفطرة.. عندما تجلد الضحية ذاتها فوق أنها ضحية

بعض المازوخيين الكُرد شطح بهم خيالهم المريض، إلى حد وصف أفعال الشغب والعنف التي قام بها قلة من المحتجين بالإرهاب.
الاثنين 2023/01/09
ليس كل الأكراد مدافعين عن حقوقهم

انهالت موجات كردية من النقد اللاذع والتوبيخ الجارح والتشفي الضامر والشماتة المبطنة ضد الاحتجاجات الكردية الأخيرة التي نظمها حزب العمال الكردستاني في باريس عقب الجريمة العنصرية والإرهابية المروعة التي قام بها أحد الفرنسيين ضد المركز الثقافي الكردي أحمد كايا بتاريخ الثالث والعشرين من ديسمبر والتي أودت بحياة ثلاثة لاجئين كُرد وجرح ثلاثة آخرين.

والذريعة الظاهرية التي سوّقها هؤلاء الوعّاظ التقليديون كانت أن القلة القليلة من المحتجين الضحايا قد قاموا دونما ضرورة ببعض أعمال الشغب وإضرام النيران في بعض المركبات والاعتداء على الممتلكات العامة، وذلك ربما كردة فعل غير منطقية وغير عقلانية على استفزاز ذئب رمادي تركي ظهر بين الجموع على حين غرّة ثم توارى عن الأنظار ليحدث ما حدث، أو ربما كاحتجاج على إهمال وبطء وتردد السلطات الفرنسية من القيام بواجباتها منذ البداية وكما يجب، أو ربما للسببين معا.

وعلى إثر ذلك تم تصوير المحتجين من قبل أصحاب تلك الموجات، وأغلبهم بارزانيون بالفطرة والاكتساب والوراثة وبتأثير المال السياسي، وكأنهم رعاع وغوغاء وشياطين بالمعنى اللاهوتي للكلمة، في حين تم تصوير الشرطة والسلطات والدولة الفرنسية وكأنهم ملائكة السماء على الأرض ولا تشوبهم شائبة.

كل ظاهرة نفسية واجتماعية وثقافية غير سوية عندما تتحول إلى مزمنة وموغلة في القدم مثل سائر الأمراض العضوية تصبح عصية على الشفاء

وبعض المزوخيين الكُرد شطح بهم خيالهم المريض إلى حد وصف أفعال الشغب والعنف التي قام بها قلة من المحتجين بالإرهاب، وبأنها لا تتمايز البتة مع العملية الإرهابية ذاتها التي قام بها ذلك الفرنسي العاقل وربما المدفوع من قبل ذئاب السلطان العثماني الرمادية، وليس المختل عقليا والمريض نفسيا والمصدوم عاطفيا كما روَّجت لذلك السلطات الفرنسية.

ومن المتعارف عليه أن المصابين بالمازوخية أو المازوشية يستمتعون بالخضوع والدونية والإهانة والألم النفسي والجسدي. وتُنسب هذه الظاهرة المرضية إلى الروائي النمساوي ليوبولد فون زاخر مازوخ الذي يبدو أنه كان يعاني من الأعراض المذكورة أعلاه. وكان ارتباط هذا المصطلح في البداية بالجنس ومن ثم استخدمه الأطباء النفسيون في الإشارة إلى الكثير من الأمراض النفسية الشاذة وتحليلها وتعليلها.

لكن سرعان ما انتقل هذا المصطلح لاحقا إلى الحقل السياسي والذي بدأ يغطي سلوكيات الأنظمة والمعارضات سواء في الدول المستقلة أو لدى الشعوب التي تسعى إلى الاستقلال كالكُرد مثلا. وتتلخص المازوخية السياسية إن جاز التعبير بتبني خطاب المظلومية والبكائية والخنوع والاستسلام والشعور بالقهر وصولا إلى حالة من الرضا والاستحسان غير المفسر علميا عن مسببات الألم والاضطهاد سواء كانت المصادر من الطبيعة أم البشر.

ويقابل المازوخية هنا مفهوم آخر وهو السادية التي تعني الحصول على اللذة من خلال تعذيب الآخرين والاستمتاع بعذاباتهم. وفي السياق السياسي هناك انسجام ضمني وغير رسمي وغير مباشر بين المازوخيين والساديين وغالبا ما يقوم الساديون الذين يمثلون هنا الحكام والأنظمة باستغلال المازوخية لدى الضحية والعمل على تفشيها وانتشارها إلى أن تصبح حالة عامة قابلة للتوارث بين الأجيال لما يدر من منافع لصالح الساديين.

وبما أن سمة الشقاق هي أهم ما تميز الكُرد، لذلك فإن المازوخية الكردية ذاتها والتي تحولت مع الزمن إلى داء بلا دواء تنشطر أيضا إلى أشكال وصور متباينة ومتعارضة حسب رؤى ومصالح وبقاء وتسيُّد الزعيم والعشيرة والمنطقة والحزب.

وعلى هذا الأساس، هناك مازوخيات كردية متضاربة في الجذور. فالبارزانيون مازوخيون تجاه تركيا ولا يرون فيها خطرا على وجود وحاضر ومستقبل الكُرد بما أن بقاءهم وتسيُّدهم على المناطق التي يحكمونها منوط نسبيا برضا تركيا. والطالبانيون مازوخيون تجاه إيران ولا يرون فيها خطرا على الكُرد داخل وخارج إيران بما أنها تشكل مصدر بقاء وصمود للسليمانية المرتعبة من تنامي نفوذ أربيل. والآبوجيون أو الأوجلانيون مازوخيون تجاه طهران ودمشق وبغداد بما أن العواصم الثلاث ساهمت وتساهم في ديمومتهم.

وانطلق المازوخيون الكُرد في تحليل أحداث باريس الكردية الأخيرة من مسلمات تقليدية مسبقة تتلخص في شيطنة كل ما يصدر من أنصار العمال الكردستاني بغض النظر عن دراسة ملابسات الفعل الأصلي وردات الفعل المترتبة عليه. وكذلك من فرضيات مثالية كضرورة تجسيد الجاليات والمؤسسات الكردية دائما وأبدا لأقصى درجات الانضباط والنظام واحترام القوانين مهما تعرضوا للغبن والإهمال، وبوجوب عدم نسيانهم بأنهم مجرد لاجئين وضيوف بصرف النظر فيما إذا كانوا يحوزون على جنسية البلدان التي يعيشون فيها أو أن غالبيتهم يعملون فيها ويدفعون الضرائب كبقية المواطنين الأصليين وذلك وفق منطق عشائري وبدوي لا يتماشى مع المعايير الأوروبية.

بما أن سمة الشقاق هي أهم ما تميز الكُرد، لذلك فإن المازوخية الكردية ذاتها والتي تحولت مع الزمن إلى داء بلا دواء تنشطر أيضا إلى أشكال وصور متباينة ومتعارضة

هؤلاء المازوخيون الكُرد وبسبب كرههم وحقدهم الدفين وغير المحدود للآبوجيين غضوا الطرف في تعقيباتهم العليلة عن القصور والعيوب التي تخللت ردة فعل الشرطة الفرنسية خلال التحقيقات والتداعيات التي أعقبت الجريمة الأخيرة. ونسي هؤلاء أو تناسوا بأنه سبق للشرطة الفرنسية وأن قيدت جريمة الاغتيال السياسي الإرهابية التي وقعت في 2013 ذات البصمات التركية الواضحة والتي أودت بحياة ثلاثة قياديات من حزب العمال الكردستاني ضد مجهول. بالإضافة إلى أن هذه الشاكلة لم تنبس ببنت شفة وانعقدت ألسنة أصحابها حول المظاهرات الحضارية والراقية الأخرى.

هؤلاء المازوخيون بالفطرة امتهنوا المبالغة في وصف المواقف الفرنسية الراهنة حيال الكُرد ناسين أو متناسين بأن فرنسا مع جارتها بريطانيا هما الدولتان اللتان قسمتا كردستان في أعقاب الحرب العالمية الأولى وهما من أقرتا ببعض حقوق الكُرد في معاهدة سيفر 1920 ثم تنصلتا من التزاماتهما في تلك المعاهدة عندما أبرمتا صفقة مع كمال أتاتورك في معاهدة لوزان 1923، أم حتى الاستشهاد بالتاريخ بالنسبة إلى هؤلاء المازوخيين يخضع أيضا لحسابات وأجندات مزاجية وانتقائية ومصلحية بحتة؟

وهنا أسأل هؤلاء المازوخيين: هل اعتذرت فرنسا للشعب الكردي عن مسؤوليتها عما اقترفته بحقهم من حرمانهم من الاستقلال وإلحاقهم قسريا بدول قديمة ومستحدثة؟ وخلال السنوات الأخيرة هل أيدت فرنسا مثلا استفتاء الاستقلال في إقليم كردستان العراق سنة 2017؟ هل استطاعت فرنسا منع تركيا من احتلال عفرين سنة 2018 وسرى كانيه وكرى سبي سنة 2019 في كردستان سوريا؟ هل نجحت فرنسا في كبح جماح الذئب التركي ولجم شراهته في قضم المزيد من المناطق الكردية في سوريا؟ هل استطاعت فرنسا إبعاد الخطر التركي الحقيقي على الوجود الكردي في سوريا وتقويض الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا؟ الجواب ببساطة هو لا، إذا لماذا الإشادة الدائمة بالمواقف الفرنسية “المتطورة” من القضايا الكردية في حين تشير الوقائع التاريخية والحاضرة إلى عكس ذلك. قد يكون الموقف الفرنسي أكثر انفتاحا من بقية المواقف الأوروبية مثل ألمانيا وبريطانيا، إلا أنه ليس متميزا أو جيدا أو حتى مقبولا. يمكن القول إن الموقف الفرنسي حيال القضايا الكردية هو أقل سوء من بقية المواقف الاوروبية والغربية، لكنه بالتأكيد ليس بتلك الجودة التي يتغنى بها هؤلاء المازوخيون.

كل ظاهرة نفسية واجتماعية وثقافية غير سوية عندما تتحول إلى مزمنة وموغلة في القدم مثل سائر الأمراض العضوية تصبح عصية على الشفاء وأحيانا كثيرة على التشخيص السليم الذي يسبق العلاج والذي يسبق بدوره الشفاء. والمازوخية الكردية الفريدة خير مثال على ذلك والتي حولت الجلّاد إلى ضحية والضحية إلى جلّاد.

7