الكثير من الرسم

أحبّ الرسامين غزيري الإنتاج. الرسام المحترف لا يفعل شيئا سوى أن يرسم. ذلك هو الاحتراف الحقيقي. ومَن جرب ذلك لا بد أن يعرف أن الإلهام هو ابن الحرفة. المزيد من الرسم يعني المزيد من الحلم. الرسوم لا يمكن انتظارها كما لو أنها أشعار.
بالرغم من موته المبكر فإن الرسام النمساوي إيغون شيلا ترك وراءه آلاف اللوحات والتخطيطات. فنسنت فان غوخ هو الآخر مات صغيرا في السن غير أن ما تركه من اللوحات يغطي حياة طويلة كاملة.
لا يعني ذلك أن الغزارة تنتج رساما جيدا. هناك مَن يرسم وقد ضاع الطريق بين خطواته ولم يعد الهدف بالنسبة إليه مرئيا. حينها يكون الكثير من الرسم أشبه بالثرثرة الفارغة، السكوت أفضل منها.
غير أن رساما مجددا ومتجددا لا بد أن يكون ممسكا بالخيط الذي يصل به إلى النهايات المشرقة.
اليوم أشعر بالندم، لأن الحوار العظيم مع الرسام العراقي رافع الناصري، وقد ربطتني به صداقة تناهز الثلاثين سنة، قد أنساني الرغبة في أن أطلب منه الحصول على أوراق كان قد رسم عليها ما يمكن اعتباره محاولات. كان الحوار دائما ممتعا مع الناصري.
وبالعكس من الناصري كان شاكر حسن آل سعيد يراسلني ويضمن رسائله تخطيطات لم تتحوّل إلى لوحات في ما بعد. كان الحوار مع آل سعيد غامضا غير أنه ممتع.
الاثنان الناصري وآل سعيد كانا غزيري الإنتاج، وهما يعرفان أن كل ما يفعلانه إنما هو جزء حي من الرسم الذي سيكون له أثر على حياة الناس. إنهما يغيّران الحياة بعد أن يغيّرا العالم من خلال الرسم. “أضرب بيدي باب الخلق لكي أؤكّد وجودي” ذلك ما يقوله الرسام الحقيقي. وذلك ما صرت أردّده كلما رأيت رسومات الناصري وآل سعيد التي صارت ترافقني في منازلي الكثيرة التي أقمت فيها متنقلا بين الدول.
كانا كريمين لأنهما كانا غزيري الإنتاج.. ولو أنهما عرفا أن تشرّدي سيمتد إلى بقاع غير متوقعة لكانا أكثر كرما. في كل ما يفعله الرسام الحقيقي إنما يبحث عن مُشاهد حقيقي لا يرى وجهه ولا يعرفه.