"الكثيب".. صراع مستقبلي مرير عبر الصحراء من أجل التوابل

في الكثبان الرملية المديدة ووسط العواصف والرياح سوف نعود مرارا لكي نستكشف وجود حضارات وأمم بائدة وتواريخ دارسة. ولربما نستشرف وجود حضارات قادمة على بُعد الآلاف من السنوات من زمننا الحاضر وقد وصلت إلى مستوى رفيع من التكنولوجيا والقوة. أجواء مثيرة خلقت أفلاما هامة أبرزها فيلم “ديون” الذي حقق نجاحا عالميا كبيرا.
تصبح الصحراء وكثبان الرمال المتحركة وأفاعي وديدان الرمال، كلها شهودا على نزعات بشرية للاستقواء والسيطرة من جهة وخوض الصراع من أجل الغلبة والبقاء من جهة أخرى.
على امتداد هذا الفضاء المكاني الشاسع تم تصوير أحداث هذا الفيلم الملحمي الخيالي الضخم بعنوان “ديون” للمخرج الفرنسي – الكندي دينيس فيلينوف وهو فيلمه العاشر بالإضافة إلى عدد من الأعمال التلفزيونية والأفلام القصيرة، إذ كان قد بدأ مسيرته السينمائية في العام 1998 بفليمه الأول الذي حمل عنوان “الثالث والعشرين من أغسطس على الأرض”، والذي سرعان ما عرّف بمخرج موهوب حيث عرض ذلك الفيلم في دورة مهرجان كان السينمائي في ذلك العام ضمن تظاهرة نظرة ما، ثم رشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وهو أيضا مخرج الفيلم الشهير “متسابق المتاهة”، ولهذا لم يكن مستغربا أن يتصدى لرواية إشكالية كانت قد صدرت في العام 1965 للكاتب فرانك هيربرت، ورافقت صدورها محاولات عدة لنقلها إلى الشاشة، لتتوج بهذا الفيلم الذي غطى القسم الأول منها.
صراع لا ينتهي
افتتحت الصالات من حول العالم لفيلم “ديون” في هذه الأيام، وبدأ يحصد النجاحات المتوقعة بعد رصد ميزانية من وارنر بروذرز وليجينداري زادت على 150 مليونا من الدولارات، فيما حقق أرباحا بعد بضعة أيام وحتى الساعة زادت على مئة مليون دولار.
واقعيا نحن نغوص في عمق المستقبل على بُعد الآلاف من السنين لكننا نعود في ذات الوقت إلى جذرنا المكاني الماضوي الممثل في الصحراء، وعلى تلك البقاع المقفرة إلا من عصف الرمال سوف تتنازع الأقوام على ثروة نفيسة لا تقدّر بثمن، ألا وهي التوابل، على افتراض أنها مواد تشفي البشر وتمدّ في أعمارهم وتمنحهم طاقة استثنائية، وحتى أنه من دونها لا يمكن فتح ممرات لدخول الفضاء، ولهذا لن تستغرب نشوب الحروب والصراعات لوضع اليد على تلك الثروة الفريدة والتي تعيدنا إلى ثنائية البترول/ الصحراء لكن من خلال مقاربة أخرى.
سوف يقيم المخرج هياكل تلك المملكة الصحراوية في إحدى صحارى الإمارات، ولمدة عشرة أيام وبدعم من مؤسسة أفلام الإمارات تم تصوير أحداث مهمة من هذا الفيلم الممتد إلى ما يقارب ساعتين في منطقة وادي رم، ثم في النرويج وهنغاريا وغيرها؟
والحاصل أن “كالادان” موطن آل أتريديس وهو كوكب كثبان رملية وأرض فقيرة لا تملك إلا تلك الثروة المهولة من التوابل، حيث تقام معامل التكرير هناك، وحيث يقود السلطة هناك الدوق ليتو (الممثل الغواتيمالي أوسكار إسحاق) وبمعيته ابنه الشاب باول أتريديس (يؤدي الدور الممثل تيموثي شالاميت) ولتكتمل أركان العائلة بالأم جيسيكا (الممثلة السويدية ريبيكا فورغسون).
والقصة ما تلبث أن تتطور بالتركيز على الشاب باول الذي فيه من الملامح والصفات ما يعيده إلى جذور الأولين وإلى سلسلة من الأخيلة والأحلام التي سوف تربطه بأناس من ذوي العيون الزرقاء من شعب الفيرمينالتي، يعود سبب لونها الأزرق بسبب تفاعلهم المستمر مع التوابل التي يعدونها مادة ثمينة للهلوسة السرية، ومن بين ذوي العيون الزرقاء من شعب الفريمن سوف تكون هنالك فتاة تراود باول في نومه في تلك الفلاة الشاسعة وتجرّه إلى عالمها.
هنالك في المقابل ما يشبه الممالك العدوة التي تناصب آل أتريديس العداء وهي النقطة الجوهرية في بناء الصراع في هذه الدراما الفيلمية، التي سوف تعيدنا إلى تلك النمطية التي سبق وشاهدنها في مسلسلات مثل “لعبة العروش” أو “الفايكينغ” أو حتى سلسلة “ملك الخاتم”، والفارق هو البيئة والمكان، فهناك الجبال والغابات والثلوج في الغالب وهنا الصحارى وكثبانها.
لكن جوهر الصراع يكمن في موافقة آل أتريديس حماية أقوام الفيرمين وهم سكان الصحارى الأصليين بناء على أوامر إمبراطورية تنتهي بعقد نوع من المصالحة السلمية، ومن هنا يتم ترسيخ شخصية الموعود والمنتظر، وهو الشاب باول الذي يسمونه في النبوءات “لسان الغائب”، وهي أسطورة قديمة يتم تداولها لترسيح فكرة المنقذ ذي القدرات الاستثنائية التي يستطيع بواسطتها اجتياز الأزمنة والمسافات.
على أن تكاملا ما بين الآراكيس والفيرمين سوف يتحقق بسبب تمرّس الفيرمين بخواص الصحراء ومعرفتهم بقواها الخفية وحتى ديدانها الفتاكة، وبذلك سوف تقترب أحلام باول من الحقيقة بلقائه بفتاة الفيرمين التي يفتتح بها الفيلم وهي تروي قصة التوابل التي بسببها تسفك الدماء، وتنشب المكائد بين المتصارعين.
ولنعد إلى خطوط الصراع الذي يستقطب أطرافا متعددة ومنهم الذين يظهرون مع هبوط الليل لكي يحصدوا التوابل قبل اشتداد حرارة النهار، وهم الهراكنة القساة الذين ينهبون حق شعب الفيرمين الأصليين والأضعف منهم، ولهذا سوف يكون الصراع الأساسي قائما بين آل أتريديس وبين الهراكنة، والذين يتمكنون من تحقيق اختراق في شكل خديعة ينتهي بمقتل الدوق ليتو وهروب الأم وابنها.
الإبهار البصري
سوف ننتقل مباشرة إلى غيدي برايم موطن الهراكنة، وهنا يتم تقديم حشود بشرية مدربة وشرسة كجماعات كومندوز في جيش منظم، وهنا أيضا سوف تنبهر من كثرة هبوط وصعود مركبات غرائبية متطورة تحمل جيوشا وعرّافات وكائنات غريبة الأطوار تنتمي إلى زمان ومكان مختلف في كل مرة، والتنويع لدى المخرج لا ينتهي وها هو بعد أن يخوض في صراع الجبابرة سوف يذهب إلى مكائد وخطط النساء.
فها هو المختار باول وجها لوجه مع الأم المقدسة التي تنتمي إلى ما يعرف البيني جيسيريت، وهي منظمة النساء شريكات العائلات الكبرى التي تسير سياسات الإمبراطورية الخفية، واللائي طوال الآلاف من السنين كن يسهرن على تهجين السلالات من أجل تقديم المختار والغائب الذي من شروطه أنه يجب أن يكون عقلا يكفي لرأب الصدع بين المكان والزمان وبين الماضي والمستقبل، ولهذا ينجح باول في الاختبار لكن نجاته من المصاعب لن تكون مضمونة، وشاهد كيف ترحل الأم المقدسة بصحبة المساعدات من الكاهنات في مركبة فضائية عملاقة وهو تفرع آخر يقدمه المخرج وفريقه.
ها هم سكان الصحراء الذين يوصفون بأنهم شرسون لكن أوفياء من أقوام الفيرمين، والذين لا ثقة لهم بالآخرين من كثرة من غدروا بهم من الغزاة ونهبوا ثرواتهم، يحتضنون باول وأمه ويساعدانهما على اجتياز محنة عبور الصحراء المترامية وديدانها الفتاكة وعواصفها الرملية التي لا تنتهي، وكل ذلك في إطار إكمال المهمة المقدسة في إنقاذ الغائب لكي يستمر في أداء المهمة الموكلة إليه.
خلال ذلك كانت رحلة باول وأمه بطائرة مروحية وهما يشاهدان كيف تبتلع الصحراء إحدى مصائد التوابل العملاقة في مشهد بارع بصريا، وكذلك الحال عند ابتلاع الصحراء لواحدة من نساء الفيرمين مع خصومها من الغزاة، وهكذا يتكرر توظيف الصحراء مكانيا سواء في اللقطات العامة التي تظهر امتداها الشاسع أو العواصف والانهيارات الرملية أو التسلل عبر الرمال لخوض صراعات جديدة، وقد قدم الفيلم الكثير من المشاهد المتميزة التي تظهر ذلك القتال الشرس ما بين أقوام الفيرمين وأعدائهم.
على أن المفارقة تقع في كل مرة ما بين وصول سكان الكواكب تلك إلى مستوى تكنولوجي متطور للغاية من استخدام المروحيات الماطورة أو المجسات الكهرومغناطيسية وغيرها من المستحدثات المتطورة، ولكن وفي ذات الوقت هنالك المعارك البدائية بواسطة السيوف والخناجر ومن ذلك المشهد سيئ الإخراج باندفاع المدافعين عن الدوق وهم يحملون السيوف فأين التكنولوجيا والأسلحة الفتاكة والكهرومغناطيسية، وفي واقع الأمر إن التذبذب ما بين البدائية وقمة التطور تتكرر في هذا الفيلم بشكل ملفت للنظر وذلك في إطار وقفات فيها الكثير من الاضطراب.
التذبذب ما بين البدائية وقمة التطور يتكرر في الفيلم وذلك في إطار وقفات فيها الكثير من الاضطراب
لقد حقق المخرج تكاملا بصريا مدهشا وحمّل فيلمه بجماليات غزيرة وشديدة التنوع وكان من أبرز علامات ذلك هو الحرص على استخدام التباينات الحجمية ما بين الكتل الضخمة مقارنة بالكائنات البشرية، وهي سمة انتشرت بكثرة في هذا الفيلم، حيث حرص المخرج على التركيز على كل ما يظهر إبهارا بصريا لجهة الأحجام والكتل على الشاشة، حتى تشعر بضآلة الكائنات البشرية أمام ذلك الكون الهائل الذي يتوزع في الكتل الضخمة وفي درجة إضاءة منخفضة وأجواء رمادية أو صحراوية.
وأما إذا توقنا عند مسار رواية القصة السينمائية وتتابعها من خلال المشاهد فإننا لن نشهد ذلك التماسك المطلوب الذي يمكن أن يشد المتفرج، ويجعله في حالة من الترقب والمفاجأة مع التحولات الدرامية، بل إننا في بعض الأحيان نكون أقرب إلى متابعة حكاية تاريخية نتواصل مع متغيراتها بحيادية ومشاهدة مجردة، وتلك هي الثغرة الأهم في هذا الفيلم.
وواقعيا فإن المخرج كرس جل اهتمامه للشكل البصري وللبراعة الملفتة للنظر في مسألة المركبات الفضائية العملاقة وطيران المروحيات التي تشبه حركات أجنحة حشرة اليعسوب، وهي كلها تحسب وتندرج في خانة الإنتاج الضخم وما توفره من مرونة في توفير مثل تلك المتطلبات.
في المقابل كان ملفتا للنظر بالنسبة إلى الكثير من النقاد أن المخرج وعلى الرغم من قيامه بالتصوير في أرض عربية وارتباط الصحراء عبر التاريخ بالعرب، إلا أنه تعمد بشكل غريب عدم الاستعانة بأي ممثل أو ممثلة من العالم العربي، وهي نقطة لم تكن في صالح الفيلم على الإطلاق، لاسيما أنه استعان بالموروث العربي من خلال أزياء مجاميع النسوة اللائي كن يهتفن للغائب وحتى كلمة الغائب تم استخدامها وهي كلمة عربية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأم جيسيكا التي كانت ترتدي أزياء وخمارا شفافا يذكرك بأزمنة وشخصيات عربية، ومع ذلك ترفع المخرج وأخطأ في الابتعاد عن كل ما هو عربي في تلك الدراما.