القيمة السياسية المتبادلة لاستمرار المساعدات الأميركية لمصر

الولايات المتحدة تحرص كل عام على إثارة مسألة المساعدات العسكرية المقدمة إلى القاهرة، فهي لا تستطيع أن تمنحها دون ضجة بشكل يمنع عنها توظيف تلك المساعدات في تذكير مصر بضوابط التحالف الثنائي، ولا هي تستطيع أن توقفها وتفتح طريقا للقاهرة من أجل بناء تحالفات جديدة. ولأجل ذلك تحاول واشنطن أن ترخي خيط المساعدات أحيانا وتطلقه أحيانا أخرى.
أصبح ملف المساعدات العسكرية والاقتصادية التي تقدمها الولايات المتحدة إلى مصر من الملفات التي تطفو على السطح كثيرا، ففي آخر الطبعات أُعلن أن وزارة الخارجية الأميركية قررت الجمعة خصم 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية، وهو القرار الذي أشار إليه وزير الخارجية أنتوني بلينكن في سبتمبر الماضي.
ورغم أن القرار لم يدخل حيز التنفيذ بعد وقد تتم مراجعته، إلا أن الإشارة إليه أكثر من مرة وربطه بحقوق الإنسان يقول إن المقصود به توصيل رسالة إلى الداخل الأميركي في إطار التزام إدارة جو بايدن برسم صورة شكلية داعمة للديمقراطية عبر التوقف عنده من حين إلى آخر، بينما المضمون يسير في سياق عكس ذلك بدليل أن واشنطن قبل أيام قليلة أعلنت عن توقيع صفقة عسكرية مع مصر بقيمة 2.5 مليار دولار.
تبدو الخصومات التي تتردد كنوع من العقاب للإدارة المصرية بعيدة عن الجوهر الخفي للعلاقة الاستراتيجية بين واشنطن والقاهرة، والتي لم تعد قيمة المساعدات التي تم تخصيصها منذ توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل هي الحاكمة لها فقط، إذ كان من الممكن أن تلغيها الولايات المتحدة بعد تمتين السلام وتمدد علاقات تل أبيب في المنطقة، ويمكن لمصر أن تتخلى عنها إذا كانت ستمثل صداعا سياسيا مزمنا.

البنتاغون تحوّل إلى سد منيع يحول دون حدوث هزة في العلاقات السياسية مع القاهرة
الحاصل أن كلا من الولايات المتحدة ومصر لا تريد قطع نهائي للمساعدات، وقد دخلت واشنطن في العديد من المناوشات الخطرة مع القاهرة ولم يتم التخلي عنها، ففي أوج الصدام بين إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما عام 2013 أقصى ما قام به في حينه هو تجميد جزء من المساعدات، ثم عادت إلى طبيعتها مع إدارة دونالد ترامب.
تكشف هذه الواقعة البعدين التكتيكي والاستراتيجي في توظيف ملف المساعدات، والذي يحرص كل طرف على استيعاب دروسه، ومنع الدخول في منطقة محرمة يمكن أن تتسبب في تدهور العلاقات بصورة غير مطلوبة.
تستخدم المساعدات المتواصلة كعلامة واضحة على متانة العلاقات، وهو ما التزمت به جميع الإدارات الأميركية السابقة وحتى الآن، إذ يفضي التفريط فيها إلى قطيعة بين البلدين، ويعيد صياغة المنظومة في إطار مختلف، لذلك فالمساعدات هي العنوان السياسي الذي يشير إلى استمرار الروابط القوية بين واشنطن والقاهرة، والتي تجاوزت الفكرة التي انطلقت منها، وهي دعم عملية السلام بين مصر وإسرائيل.
تحلل ملف المساعدات الأميركية لمصر من العقدة الإسرائيلية في المنطقة، وباتت رقما خالصا يمكن فهمه في سياق العلاقة الثنائية بين واشنطن والقاهرة وما يحكمها من ثوابت مباشرة، وما تنطوي عليه من روافد إقليمية متعددة، فتفريط الولايات المتحدة فيها يعني إشارة بتراجع أهمية مصر في حساباتها، وإقدام الأخيرة على رفضها ينذر بأنها تتخلى عن علاقة قوية امتدت على مدار نحو خمسة عقود.
تنظر واشنطن إلى القاهرة على أنها حليف ليست له أطماع تهدد مصالحها في المنطقة، ودولة يمكن الوثوق فيها في إطار التذبذب الواضح في العلاقات مع تركيا، وربما إثيوبيا، والتوتر الحاصل مع إيران، وهو ما يعني أن واشنطن تمكنها الاستعانة بالقاهرة وبأشكال متباينة إذا أرادت تأديب أيّ من هذه الدول.
تعتبر الولايات المتحدة مصر الدولة الوحيدة التي تتمتع بثبات كبير في التوجهات الخارجية خلال السنوات الماضية، وغالبية تصرفاتها تتسم بالمرونة وعدم الرعونة ولا تصطدم بمصالحها الحيوية، وطموحاتها الإقليمية لا تتعارض معها في الكثير من الأحيان، بما يسهل من تحديد مجموعة من القيم التي تستخدم في تطوير عملية التفاهم.
وتحرص الولايات المتحدة على توفير ضمانات لمنع انهيار الدولة المصرية، أو على الأقل تحافظ على الحد الأدنى من التماسك، وقد تكون المساعدات إحدى الملامح المعبرة بقوة عن هذه الرغبة، فعلى الرغم من قلّتها (2.1 مليار دولار سنويا)، إلا أن استمرار تدفقها يعني الحفاظ على درجة من التوازن معها تسهم في عدم تعريض الأمن القومي الأميركي نفسه لأضرار بالغة، وهو المنطق الذي استخدمته وزارة الخارجية لتبرير الصفقة العسكرية الأخيرة مع مصر.
هناك قيم متبادلة لاستمرار المساعدات الأميركية لمصر يعمل الطرفان بشتى الطرق على التمسك بها ومنع تحويل المنغّصات إلى أزمات، ما يفسر الاحتواء السريع لكل مطب حدث بينهما في الآونة الأخيرة، كي لا يصل إلى مستوى اللاعودة، ولعبت العلاقات الوثيقة بين جيشي البلدين في ضمان عدم الانزلاق إلى توترات سياسية طويلة، وتمكّنت من توفير القاعدة التي يرتكز عليها التعاون في ملفات مختلفة.

واشنطن تحرص على توفير ضمانات لمنع انهيار الدولة المصرية، أو تحافظ على تماسكها، والمساعدات تعبر عن هذه الرغبة
تحول البنتاغون إلى سد منيع يحول دون حدوث هزة في العلاقات السياسية مع القاهرة، وأصبحت المؤسسة العسكرية في مصر الأداة التي تقوم بضابط الايقاع ورسم الخطوط العريضة مع الولايات المتحدة، وساعدت هذه المعادلة في تفويت الفرصة على وصول الخلافات في فترات كثيرة إلى مستوى تصعب السيطرة عليه.
دخلت عوامل محلية وإقليمية ودولية عديدة جعلت النظام المصري لا يربط مصيره السياسي بالولايات المتحدة، في مقدمتها الموقف الأميركي من نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي ضحت به إدارة أوباما عند أول منعطف قاس تعرض له، ما أدى بالنظام الحالي ألا يضع كل أوراقه في سلة واشنطن وحدها، فالدروس التي حواها التخلي عن مبارك فرضت طقوسا جديدة في التعامل معها.
فقد اتجه الرئيس عبدالفتاح السيسي نحو تنويع علاقاته في المجالات السياسية والاقتصادية، والأهم في المجال العسكري وعقد صفقات مع دول متباينة في الشرق والغرب، ولم تعد الولايات المتحدة متحكمة في تسليح الجيش المصري، وهي النقطة التي تفرض الحفاظ على ما تمثله المساعدات الأميركية من أهمية استراتيجية وعدم التمادي في التلويح بتقليصها اعتراضا على تطوّرات ملف حقوق الإنسان في مصر.
علاوة على أن الولايات المتحدة لم تعد منخرطة بشكل كبير في تفاصيل الصراعات في منطقة الشرق الأوسط وبدأت انسحابا تدريجيا لافتا، وأن هناك قوى أخرى تسعى لممارسة الدور الذي كانت تلعبه، ما أدّى إلى توسيع القاهرة لعلاقاتها والاستفادة منها، حيث توجد قوى تمسك بمقاليد الأمور بصورة تسبق الولايات المتحدة أحيانا.
الولايات المتحدة تعتبر مصر الدولة الوحيدة التي تتمتع بثبات كبير في التوجهات الخارجية خلال السنوات الماضية، وغالبية تصرفاتها تتسم بالمرونة وعدم الرعونة
تخشى واشنطن أن يؤدي التلاعب بالمساعدات المقدمة إلى مصر إلى دفعها نحو مزيد من تطوير علاقاتها مع كل من روسيا والصين، ومن هنا تبدو الولايات المتحدة بلا ظهير حقيقي من القوى الإقليمية التي يمكن التفاهم معها، ويختل جانب معتبر من التوازنات التي شيّدتها عبر عقود طويلة في المنطقة.
كما أن القاهرة التي طورت علاقاتها مع كل من موسكو وبكين لا تزال عملية التعاون مع كليهما مسكونة بشكوك يمكن أن تعكّر صفو التطورات في المستقبل، فالانفتاح العام الذي تبديه القيادة السياسة في العاصمتين على عواصم كثيرة في المنطقة لا يضمن للقاهرة أفضلية كبيرة معهما ويحتاج إلى زيادة جرعات الثقة، بينما العلاقة مع الولايات المتحدة جرى اختبارها والتعرف على الخيوط البيضاء والسوداء فيها.
ولذلك سوف تبقى العلاقة بين واشنطن والقاهرة محافظة على درجة كبيرة من متانتها السياسية والعسكرية، وكل ما يحدث من توترات في ملف حقوق الإنسان لا يرقى إلى المستوى الذي يؤثر سلبا على الثوابت التي قبلها الطرفان ولا يرغبان بالتفريط فيها.