القوى المدنية السودانية لم تستوعب دروس الحرب

كلما تأخرت القوى المدنية في طرح مبادرة شاملة ازداد الأمر صعوبة أمامها في أن يكون لها دور معتبر لإنهاء هذه الحرب، فالوقت يمر والصراع يتمدد والقوى الإقليمية والدولية قد تفتر همتها.
الاثنين 2023/08/07
أوضاع مريرة لم تعد تحتمل الانقسامات

كان الدمار الذي أحدثته الحرب الدائرة بين قوات الجيش السوداني والدعم السريع كفيلا بأن تعيد القوى المدنية أو بعضها النظر في كثير من مسلماتها السياسية، وتصبح هي الخيار المناسب الذي تتفق عليه ومعه وحوله قوى بالداخل والخارج لو تحلت بقدر جيد من الرشادة وتخلت عن جزء من ولاءاتها السياسية البغيضة.

لم تعد الأوضاع المريرة التي يمر بها الشعب السوداني تحتمل انقسامات ومزايدات ودورانًا في حلقات مفرغة لا تؤدي إلى حلول، فالخطاب السياسي للقوى والأحزاب والحركات المؤيدة للجيش أو الدعم السريع لم يتغير تقريبا، ربما أدخلت عليه تعديلات فرضتها طقوس الحرب، إلا أنه لا يزال بعيدا عن التجرد من الحسابات الضيقة.

يكفي انعقاد مؤتمرين في القاهرة أخيرا، أحدهما للمجلس العسكري بقوى الحرية والتغيير، والثاني للكتلة الديمقراطية في التحالف نفسه، ليتأكد المكتوون بنيران الحرب أن لا أحد يتعلم في السودان من العبر والدروس، فالأخطاء تتكرر، والتصورات لا يتم تعديلها بما يتفق مع المعطيات الجديدة، كأن انتصار الرؤى الشخصية أهم من الحفاظ على وحدة واستقرار السودان.

◙ تغيرت الأحزاب والقيادات واختفى أو سقط بعضها أو تفتت، وظهرت أخرى حديثة، والمعلم البارز فيها هو التشبث بمواقف عقيمة وتفويت الفرص على تطورات سياسية لو استثمرت جيدا لتغير وجه السودان

قد يُغضب هذا الكلام البعض، لكنه في صميم العوامل التي قادت إلى الأزمة الراهنة وروافدها، حيث أسهم الاستقطاب الحاد في دخول هذا المأزق، ربما لعب فلول النظام السابق بتنويعاتهم دورا في الصعود إلى حافة الهاوية لكن توجهات بعض القوى المدنية وتشتتها منحاهم الفرصة للسعي إلى القفز على السلطة والطمع في العودة إلى الحكم مرة أخرى.

لست بحاجة إلى العودة إلى سرديات بكائية أو لوم أحد في قوى الحرية والتغيير، فالواقع القاسي يستوجب التفاعل والعمل على إيجاد حلول عملية، وهو الدور الذي يجب أن تلعبه قوى الحرية والتغيير من دون تصنيفات سياسية، مستفيدة من الانسداد الذي وصلت إليه مفاوضات جدة بين وفدي الجيش والدعم السريع ورغبة قوى دولية عديدة في العودة إلى مسار التحول الديمقراطي الحقيقي قبل أن تزداد الأمور قتامة.

ما يحدث الآن لا يشير إلى هذه المسألة بوضوح، فكل فريق يعقد مؤتمرا أو يجري لقاء مع جهات معنية ويتحدث بصوته ولا يعبر عن صوت الغالبية العظمى من أهل السودان الذين تحرقهم نيران الحرب كل يوم.

إذا لم يجد المجتمع الدولي قوة مدنية متماسكة يعوّل عليها في الحوار والنقاش والحل سوف يصبح المستقبل في يد من يحسم الصراع لصالحه، ومع صعوبة ذلك يمكن أن ينزلق السودان إلى منحنى أشد خطورة، يبدأ بحرب أهلية طويلة وممتدة في الخرطوم وأقاليم متباينة، وينتهي بمزيد من التفتت للدولة.

من المفترض أن تكون الحرب قادت إلى تجاوز إشكالية من مع من، ومن ضد من، لأن الموقف يستدعي الدفاع عن السودان بدلا من المناورات التي يتمسك بها البعض ممن يقفون في صف فريق ولا يثقون في فوز الفريق الآخر، وعلى هؤلاء وهؤلاء التخلي عن البراغماتية المقيتة التي أسهمت في وصول السودان إلى هذا المنحدر، فالمنتصر عسكريا في هذه الحرب مهزوم سياسيا في المحصلة النهائية وبالمعايير الأمنية، ويرث بلدا مدمرا بكل ما ينطوي عليه ذلك من تداعيات.

◙ السودان يحتاج إلى مزيد من التجرد السياسي، وربما تكون هذه واحدة من العقد التي لم تفلح النخب المختلفة في هذا البلد في تجاوزها على مدار عقود

كلما تأخرت القوى المدنية في طرح مبادرة شاملة، ازداد الأمر صعوبة أمامها في أن يكون لها دور معتبر لإنهاء هذه الحرب، فالوقت يمر والصراع يتمدد والقوى الإقليمية والدولية قد تفتر همتها مع توالي النزاعات في المنطقة، إذ كشفت أحداث النيجر أن هناك ما هو أهم من السودان، وإذا تصاعد الموقف في إثيوبيا عقب أحداث الأمهرة ستصبح المأساة مكتملة ويوضع السودان في جدول أعمال دولي متأخر أو على الرف.

ما كان من السهل التفاهم حوله قبل الخامس عشر من أبريل أضحى صعبا بعده، وما كان ممكنا بعد اندلاع الحرب بات مستحيلا، فكل يوم في الحرب مع غياب أفق سياسي معناه مزيد من الضحايا والجثث ورفع منسوب التعقيدات على الأرض، وخروج مئات الآلاف من السودان لن ينسي وجود الملايين في الداخل لا يعلمون مصيرهم.

قدمت الحرب دروسها للقوى المدنية، غير أن قيادات فيها لا تريد استيعابها حتى الآن، وتفضل الانتصار لرؤيتها على إنقاذ السودان، وهذه واحدة من المشكلات الكبيرة التي يمثل تجاوزها نقطة عبور لكثير من القضايا الحيوية، فالحرب التي تصل إلى هذا المستوى من التخريب لا غالب ولا مغلوب فيها، سواء أكان عسكريا أم سياسيا، وهذا أحد أبرز الرسائل التي على القوى المدنية تدارك تبعاتها مبكرا.

كل الجولات الخارجية التي تقوم بها بعض القوى المدنية هي دليل ضعف وليس قوة، طالما أنها محكومة بتوازنات خاصة بكل فريق، ومهمتها جذب أنصار إليه أو التظاهر بحيادية مفتعلة أكثر من البحث عن تسوية سياسية حقيقية.

◙ الخطاب السياسي للقوى والأحزاب والحركات المؤيدة للجيش أو الدعم السريع لم يتغير تقريبا، ربما أدخلت عليه تعديلات فرضتها طقوس الحرب، إلا أنه لا يزال بعيدا عن التجرد من الحسابات الضيقة

كما أن الهواجس التي تسكن عقول بعض الأطراف في قوى الحرية والتغيير المتعلقة بالمواءمات السياسية بين الدول الإقليمية المجاورة للسودان تؤدي إلى عدم الوصول إلى رؤية منتجة، وتضاعف من عجز الراغبين في إيجاد صيغة مناسبة للتسوية، ما يعزز التكيف مع الأوضاع الراهنة.

يحتاج السودان إلى مزيد من التجرد السياسي، وربما تكون هذه واحدة من العقد التي لم تفلح النخب المختلفة في هذا البلد في تجاوزها على مدار عقود ولعبت دورا في تكريس مأزقه المستمر، بصرف النظر عن طبيعة النظام الحاكم، عسكريا أم سياسيا، فالمعارضة في الحالتين لا تغير جلدها أو منهجها، كأن هناك جينات تتوارثها الأجيال.

تغيرت الأحزاب والقيادات واختفى أو سقط بعضها أو تفتت، وظهرت أخرى حديثة، والمعلم البارز فيها هو التشبث بمواقف عقيمة وتفويت الفرص على تطورات سياسية لو استثمرت جيدا لتغير وجه السودان وأصبح قبلة للتحول الديمقراطي الناعم في المنطقة بدلا من قتال وصراعات وانقلابات لا تهدأ.

يحمّل سودانيون الجيش والدعم السريع جانبا من المسؤولية، ويحملون الجزء الآخر لفلول النظام وأطماعهم، من دون إغفال الدور المؤثر الذي تسببت فيه تصورات القوى المدنية في التعامل مع النتائج التالية لسقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، ولأنها قوى تضم نخبا واعية سوف يكون الحمل الملقى على عاتقها يتناسب مع حجم الطموحات التي راهنت عليها لإحداث تغيير سياسي.

من المؤكد أن هذه القوى تعلم هذه النتيجة وأبعادها جيدا، وعليها أن تعلم أيضا عدم قدرة السودانيين على استمرار هذه الوديعة في حوزتها، فتطورات الحرب خصمت كثيرا من رصيد قياداتها ويمكن أن تخصم أكثر من ذلك إذا لم تقدم طرحا نزيها يساعد على وقف المعارك سريعا والعودة إلى العملية السياسية في أقرب فرصة.

8