القوى التقليدية الأوروبية والملف السوري: من سيحسم مستقبل الآخر

فرنسا وألمانيا وبريطانيا ترى أنه لا يمكن منح أموال لسوريا بينما الأسد، الذي يخضع لعقوبات من الاتحاد الأوروبي، لا يزال في السلطة، أو اقتراح استئناف الاتصالات الدبلوماسية.
السبت 2019/03/02
القرارات المصيرية تخرج عن نطاق سيطرة القوى التقليدية

تقف القوى الأوروبية اليوم حائرة أمام الحرب في سوريا وما تطرحه من معضلات وسيناريوهات ومتغيرات، تؤثر بشكل مباشر على السياسة الداخلية للدول الأوروبية كما على سياساتها الخارجية، مع دول الشرق الأوسط وإيران وروسيا والولايات المتحدة، وحتى على مستوى علاقاتها الأوروبية- الأوروبية. وتأتي تطورات الملف السوري، في مرحلة تشهد تغييرات كبرى على مختلف المستويات، وحتى في أوروبا نفسها التي تغيرت موازين نظامها التقليدي، فلم تعد برلين وباريس وبروكسل مصدر التأثير الوحيد مع صعود الأحزاب اليمينية الشعبوية المتمردة على النظم التقليدية.

لندن – تدل العديد من المؤشرات على وجود تحولات كبرى في المواقف الأوروبية حيال قضايا إقليمية هامة في منطقة الشرق الأوسط وخاصة الملف السوري الذي مثّل فيه الاتحاد الأوروبي طيلة ثماني سنوات لاعبا أساسيا تمسّك وبشدة بوجوب الإطاحة بنظام بشار الأسد.

ولئن تمسّكت أثقل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي كفرنسا وألمانيا وبريطانيا، برفض التطبيع مع النظام السوري، تؤشر التصريحات الأخيرة لزعمائها على وجود تغيرات كبرى في سياسات الاتحاد الأوروبي تسير نحو تغيير البدائل المطروحة من عسكرية تطيح بالنظام السوري إلى البحث عن حلول سياسية.

تغير المواقف

يُتوقع أن تكون السياسات غير الموحّدة من الأزمة السورية للاتحاد الأوروبي أكثر وضوحا في انتخابات البرلمان الأوروبي في ظل دفع الأحزاب الشعبوية إلى فتح قنوات تواصل مع روسيا ومع النظام السوري لحلحلة العديد من الملفات ومن أهمها مسألة اللاجئين السوريين.

ويؤكد العديد من المتابعين، أن تعمّد قادة أوروبا التقليديين كفرنسا وألمانيا، تجاهل الحديث عن الأزمة السورية خلال القمة العربية الأوروبية في القاهرة يعد دليلا قاطعا على إدراكهم لخطورة الملف خاصة بعد محاولتهم جس نبض مواقف الدول العربية التي يبدو أنها ستتوجه إلى التطبيع مع النظام السوري.

 بروكسل وبرلين وباريس تميل لفكرة عزل النظام السوري
 بروكسل وبرلين وباريس تميل لفكرة عزل النظام السوري

لكن، ولئن تجنب الأوروبيون الخوض في الملف السوري في القمة العربية الأوروبية بالقاهرة، فلن يكون هناك مهرب من طرح هذا الملف بكل معضلاته؛ من الحل السياسي إلى اللاجئين وعودة الجهاديين الأوروبيين، مرورا بدعم الأكراد والموقف الأميركي، كما المواجهة مع روسيا، في الشهر القادم خلال مؤتمر في بروكسل لجمع مساعدات بمليارات الدولارات لفائدة النازحين السوريين. ويقول دبلوماسيون إن هذا المؤتمر سيكون لحظة حاسمة في جهود أوروبا في الملف السوري، خاصة مع انسحاب القوات الأميركية.

ويعد الاتحاد الأوروبي أكبر مانح للمساعدات في العالم، وجعل مرارا دعمه لإعادة إعمار سوريا متوقفا على عملية سلام تقودها الأمم المتحدة لإنهاء الحرب التي قتلت مئات الآلاف وشردت نحو نصف سكان البلاد الذين بلغ عددهم قبل الحرب 22 مليون نسمة.

لكن مع توقف العملية التي تقودها الأمم المتحدة وبعد التدخل الروسي الحاسم لصالح الأسد في 2015 وبينما يدرس جيران عرب إعادة العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، تهدد الانقسامات بتقويض ما تبقى من نفوذ لدى الاتحاد الأوروبي في هذا الملف الشائك.

وقال دبلوماسي كبير في الاتحاد الأوروبي إن “الضغوط تتزايد علينا لإعادة بناء سوريا، لاسيما من الروس”، فيما كتبت الكاتبة الفرنسية ناتالي نوغيريد، في صحيفة الغادريان، مؤكدة أن “محاكمة الرئيس السوري بشار الأسد، لا تزال ممكنة، بمساعدة الاتحاد الأوروبي”.

وأشارت نوغيريد إلى أن السلطات الألمانية والفرنسية اعتقلت في الفترة الأخيرة ثلاثة من أفراد المخابرات السورية بتهمة التعذيب، وأن هذه الاعتقالات خطوة إيجابية في اتجاه محاكمة رموز النظام السوري الضالعين في جرائم القتل والتعذيب.

في المقابل، تحاول الأحزاب اليمينية المتطرفة في إيطاليا والنمسا والمجر، وهي دول تنتقد بشدة سياسة الهجرة الأوروبية وتقيم علاقات أوثق مع موسكو، ترجيح كفة المحادثات مع السلطات السورية، وذلك تحت بند السماح بعودة الملايين من اللاجئين إلى سوريا.

وكان وزير خارجية إيطاليا إينزو موافيرو ميلانيزي قال إن “الأسد، الذي يتهمه الغرب باستخدام أسلحة كيميائية محظورة، لا يزال من الممكن أن يكون طرفا في الحوار”. وتحدث عن إعادة فتح سفارة إيطاليا في دمشق.

ويقول دبلوماسيون في الاتحاد الأوروبي إن النظام السوري، المدعوم من إيران، يضغط على دول الاتحاد الأوروبي لفعل ذلك بتعليق التأشيرات التي يستخدمها الدبلوماسيون في بيروت لدخول سوريا.

إشكالات سياسية

المرحلة القادمة في سوريا تشهد تغييرات كبرى على مختلف المستويات
المرحلة القادمة في سوريا تشهد تغييرات كبرى على مختلف المستويات

سيمثل مستقبل العلاقة مع سوريا ومع نظامها القائم إلى حد الآن لحظة فارقة في المزيد من تفكيك الاتحاد الأوروبي أو تقويته، في ظل تصاعد النعرات القومية المراهنة على لعب هذه الورقة في انتخابات البرلمان الأوروبي.

ويقول الحزب القومي الحاكم في بولندا إنه مستعد لتمويل بناء منازل ومدارس لمساعدة السوريين على العودة، لكنه لن ينفصل عن موقف الاتحاد الرسمي القائم على عدم المشاركة في إعادة بناء سوريا قبل بدء عملية انتقال سياسي. وقال وزير خارجية بولندا ياسيك تشابوتوفيتش “نحن متضامنون مع الاتحاد الأوروبي، لكن هذه مشكلة سياسية شديدة الأهمية”.

وترى فرنسا وألمانيا وبريطانيا أنه لا يمكن منح أموال لسوريا بينما الأسد، الذي يخضع لعقوبات من الاتحاد الأوروبي، لا يزال في السلطة، أو اقتراح استئناف الاتصالات الدبلوماسية. ودعت الدول الثلاث الحكومات إلى النظر في تشديد قواعد المساعدات.

وقال دبلوماسي إن “الدول الكبرى تتحدث عن صبر استراتيجي”، فيما تقول دول أخرى مثل السويد وإسبانيا وأيرلندا إنه من غير المنطقي الحديث عن إعادة السوريين إلى بيوت دمرتها الحرب. وأكد مبعوث آخر للاتحاد الأوروبي أن “الوضع الجيوسياسي ليس مواتيا لنا لتقديم أموال. إنها مسألة نفوذ ولا يمكننا أن نتخلى ببساطة عن ورقة النفوذ الوحيدة التي نملكها”.

بالتزامن مع وجود مواقف وتصورات متناقضة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي خاصة حيال مسألة المساعدات إلى السوريين، يقول نشطاء حقوقيون أوروبيون في محاولة لإيجاد حل وسط، إنه ينبغي لحكومات الاتحاد الأوروبي الحديث بصوت أعلى عند مطالبة الأسد وداعميه الروس بالسماح بوصول المساعدات إلى كل السوريين.

وخصصت المفوضية الأوروبية مساعدات للمدنيين في سوريا بقيمة 1.1 مليار يورو (1.25 مليار دولار)، لكن لم يتم إنفاق المبلغ كله بسبب مشكلات في الوصول إلى المستهدفين. ومن المرجح أن يجمع مؤتمر بروكسل المزيد من تلك الأموال.وقالت ديانا سمعان، الباحثة في الشؤون السورية بمنظمة العفو الدولية، والتي تقيم في بيروت وتعمل على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، “إذا كانت الدول تريد الانخراط في إعادة الإعمار، فينبغي أن يكون ذلك بطريقة غير تمييزية، وبناء على الحاجة، وأن يصلوا إلى الفئات الأضعف، وينبغي ألا يفيد ذلك الحكومة المسؤولة عن جرائم الحرب”.

ومن بين الشروط الأخرى المحتملة المرتبطة بالمساعدات الاتصال بالسجناء السياسيين، وإنهاء التجنيد الإجباري والاعتقال التعسفي ومصادرة الممتلكات، رغم أن ديانا سمعان تقول إن “ذلك غير منطقي في ضوء سجل النظام السوري”.

إن محاولات قادة أوروبا “التقليدية” تأسيس جبهة قوية موحّدة تعيد صياغة توازنات تجعل أوروبا تنافس روسيا أو الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يرجح لها أن تبوء بالفشل بسبب تراكم الخلافات بين أعضائها، كما أن أوروبا تدرك أيضا أن مواقفها وتحركاتها مرتبطة وثيق الارتباط بسياسات واشنطن، فرغم تظاهر زعماء الاتحاد الأوروبي بإمكانية الخروج عن عباءة الرئيس دونالد ترامب فهم واعون بالتوازي مع ذلك بأن الاتحاد الأوروبي يفتقر حقيقة إلى القوة العسكرية اللازمة للتصرّف بشكل فعّال من دون دعم أميركي.

لا مهرب للأوروبيين من الخوض في ملف اللاجئين
لا مهرب للأوروبيين من الخوض في ملف اللاجئين السوريين

 

7