القضية الفلسطينية كأفق للتفكير

الاثنين 2015/10/19

هل يمكننا أن نجعل من القضية الفلسطينية أفقا للتفكير؟ هل بوسعنا إعمال العقل بعد كل هذه العقود من المزايدات اللفظية والحسابات الضيقة والضجيج المفتعل؟ هل مازال التفكير الإيجابي ممكنا في قضية أضحت مجالا لتهييج الغرائز وتأجيج الانفعالات وتعطيل الحس النّقدي؟

لا أملك إلا إجابة واحدة: التفكير ممكن في كل أحواله، بل التفكير واجب إنساني وأخلاقي، بل التفكير ضرورة من ضرورات البقاء على قيد الحياة، طالما لا يمكن للإنسان التعويل على غرائزه التي صارت الأقل “ذكاء” مقارنة بغرائز سائر الثدييات. ولذلك، بدون العقل (هذا السر الغامض) لا يمكن للإنسان أن يستمرّ طويلا على قيد الحياة. يصدق هذا على الأفراد كما يصدق على الشعوب أيضا. والآن، يمكننا أن نرفع الحرج لكي نمارس حقنا في التفكير. لكن، من أين نبدأ؟

هناك مبدأ هام وعام لا يمكننا التغاضي عنه أو إغفاله، كل المعارك الكبرى تحدث في مستوى المفاهيم والتصورات أوّلا، ثم تنتقل إلى مجال الكلمات والمصطلحات ثانيا، ثم تتحول إلى مجال الممارسات والأفعال ثالثا، سواء في إطار سلمي مدني (هذا ما ندعو إليه على الدوام)، أو في إطار عنيف مسلح (هذا ما نرجو تفاديه في كل الأحوال). والآن، إذا ما أغفلنا المستوى الأوّل والمستوى الثاني، لا يبقى أمامنا غير التهييج الغوغائي، والذي مهما طغى وتغوّل فإنه لا يقود إلى الانتصار. نعم عن القضية الفلسطينية أتحدث، ولعلي سأبين لماذا يجب إخراجها من الأبعاد الطائفية والدينية واعتبارها قضية إنسانية. لكني أعاود الحديث في هذا الأمر للتذكير بثلاثة مفاهيم مرجعية تساهم في استعادة البوصلة التي فقدناها منذ اتفاقيات أوسلو، وتتعلق جميعها بالمستوى الأول من المعركة:

أوّلا، مفهوم الهزيمة وفق رؤية صاحب “الهزيمة والأيديولوجية المهزومة”، ياسين الحافظ، باعتبار الهزيمة، وهو يقصد هزيمة 1967، لم تكن مجرّد هزيمة عسكرية ولا كانت هزيمة للأنظمة، ولا كانت هزيمة البورجوازيات العربية كما ظنّ الماركسيون الكلاسيكيون، وإنما هي هزيمة حضارة برمتها. نحن مهزومون في كل تفاصيلنا، من سلوك الحاكمين، إلى أساليب المثقفين، إلى تفاسير رجال الدين، إلى مسائل العلم والتعليم. ما يعني، إذا قلبنا الصورة، أن أي انتصار مزعوم لن يكون انتصارا فعليا إذا هو اقتصر على ساحة الوغى. بل يقتضي النهوض أحيانا ترك الجبهة العسكرية والتركيز على المقاومة المدنية السلمية في كل أبعادها الثقافية والعلمية والتنموية والفنية.

ثانيا، يجب الحفاظ على البعد الإنساني للقضية كما كان يقول إدوارد سعيد. بحيث أن انحصار القضية الفلسطينية في الدائرة العربية (كما فعل القوميون) أو الإسلامية (كما فعل الإسلاميون) سيجعل منها قضية خاسرة غير قابلة للترويج أمام الرأي العام الدولي. لا يجب أن ننسى بأنّ الرأي العام الدولي عامل حاسم، ولا يكفي أن نلومه ما دمنا نصوغ قضايانا بلغة قومية أو دينية لا تعنيه في شيء. إن إضفاء الطابع الإنساني على المعاناة هو ما فعله اليهود عقب مأساة الهولوكوست، وهو ما فعله سود جنوب أفريقيا بقيادة مانديلا في مواجهة الأبارتهايد. ولأجل ذلك كان إدوارد سعيد يلح على أهمية التفوق الأخلاقي للضحية على الجلاد. بحيث لا يمكن لهمجية الجلاد أن تبرر همجية الضحية.

ثالثا، لا يجب التفريط في مبدأ العلمانية، ذلك أن إسرائيل دولة قائمة على المشروعية الدينية، وثغرتها الأساس أنها لم تتخلص من تلك المشروعية الوهمية، بل يدفعها اليمين اليهودي المتطرف نحو مزيد من الانغلاق الديني والطائفي، مما يمثل نوعا من النازية المتدينة، وهو الفيروس الذي يهدد إسرائيل من الداخل ويساهم في تأجيج الحروب الدينية والمذهبية في المنطقة، تلك الحروب التي تغري اليمين البروتستانتي المتطرف الحالم بمعركة الأرماجيدون. غير أن هناك من يزعم بأن الخصم الديني لا يحارب إلا بسلاح ديني. فهل بوسعنا أن نواجه عشرات الحجج التوراتية حول أرض الميعاد ومدافن الأنبياء العبرانيين (وهي حجج غيبية) بحجة الإسراء والمعراج (وهي كذلك حجة غيبية)؟ إن هذا سيؤدي في أحسن الظروف إلى تكافؤ الأدلة ما يضيع عنا حججنا الحقيقية، وهي حجج التاريخ والجغرافيا والشرعية الدولية، بل يضيع عنا إحدى التفاصيل الإنسانية الأكثر أهمية (حق العودة)، نعم هو حق لا يسقط بالتقادم لكنه قد يسقط في دائرة النسيان إذا جاء يوم لا يرغب فيه أي أحد في العودة.

إن تعميم نموذج الدولة الدينية الطائفية لكي يشمل كل الدول المحيطة بإسرائيل سيجعل إسرائيل، تعيش في محيط إقليمي منسجم معها ومنسجمة معه. وهذا ما يريده المحافظون الجدد واليمين اليهودي المتطرف حين يعولون على تغوّل بعض الحركات الدينية السلفية، والتي مهما اشتد عنفها إلا أنها في مستوى التصورات لا تمتلك من أفق آخر غير بناء كيانات قد تختلف مع إسرائيل لكنها تمنحها مشروعية الوجود.

المقاومة الفعلية القادرة على إعادة اللحمة للشعب الفلسطيني المنقسم، والقادرة على اختراق الرأي العام الدولي، والقادرة على تحقيق التفوق الأخلاقي على الاحتلال، هي المقاومة التي تجرؤ على استبعاد الحسابات الدينية والطائفية والعنصرية من دائرة الصراع السياسي، فتكون بذلك قادرة على إحراج الجميع حين تتهم إسرائيل بأنها دولة عنصرية طائفية دينية متعصبة. أما وحالنا اليوم غارق في الفتنة والجهل والتكفير، فستبدو إسرائيل بمثابة الخيار الأقل سوء، حتى بالنسبة للكثير من “عرب الداخل”.

كاتب مغربي

9