القصيدة حيرة الشاعر والشعر موقف من العالم

يصعب على الشاعر أن ينكفئ تماما على ذاته مهما تضخّمت هذه الأخيرة ليصبح محور العالم في نصوصه، وينشغل بأشيائه الصغيرة فحسب، لأنّها ليست بالضرورة موضوعا شعريا شاملا. فاحتكاك الذات بالآخر هو مصدر التوتر الوجودي الذي يشكّل مادة الشعر، وقوة الشعر تكمن في الارتقاء بهذه المشاعر الذاتية إلى مستوى السؤال الوجودي، إنّها قوة فعل الخلق الفردي داخل المحيط الاجتماعي. فالشعر هو هذا التعبير “الجُوّاني” عن الذات باعتبارها كينونة جماعية. دون السقوط في وهم اختزال العالم في ذات الشاعر باعتباره شخصا متقدّما على مجتمعه، يمارس الإبداع بنبوئية متعالية. هكذا يبدأ ضيفنا الشاعر المغربي المقيم في بروكسل طه عدنان حديثه.
موقف من العالم
طه عدنان المولود في آسفي المغربية عام 1970، نشأ بمراكش ويقيم منذ العام 1996 في العاصمة البلجيكية بروكسل، يرى أن القصيدة تُكتب بداية انطلاقا من تراكمات الذاكرة ومخزون القراءات الأولى، وهو يميل اليوم إلى القصيدة التي تحتكّ بالواقع وتعبّر عن حيرة وهشاشة الكائن تحت وطأة اللحظة الجماعية بكامل توتّراتها. فلسفةُ ضيفنا الشعرية تنطلق من صعوبة التزام الشعر إلا بالشعر ذاته، فالشعر أساسا موقف من العالم كما يراه، وهو بهذا المعنى سلطة حرّة قائمة بذاتها لها إرادتها المستقلة وعليها أن تلبّي نداء الكتابة وتنطق بحكمٍ ما حيال ما يجري دونما إكراه من حزب أو قبيلة أو مذهب، إنّها سلطة الفرد الجمعي. وعلى الشاعر أن يمارس هذه السلطة الفريدة بترفّع عن الحدث الظرفي والطارئ ليرتقي به إلى زمن الشعر اللانهائي ويضعه في قلب اللحظة الإنسانية، وبهذه الصورة يمكن للشعر أن ينتج رؤية مرتبطة بقضايا المجتمع، على أن تظلّ هذه الرؤية شعرية بالأساس، ومتخفّفة من النبرة الخطابية المباشرة المنتجة لليقين. وعلى أن تبقى القصيدة في خدمة القضية الأولى للشاعر التي هي بالضرورة “الشعر”.
يعترف طه عدنان أن كتابته غالبا ما تنطلق من ذاتيّته الخاصة، لكن دون أن تستغرقه هذه الذات تماما، فإلى جانب الشرط النفسي، ما يكتبه محكوم بالسياقات الاجتماعية والتاريخية التي تنتجه. إنه نوع من التأريخ الشعري للرّاهن كما يصفه. لذا يبتدِعُ عالما شعريا يُعيد فيه صياغة ما قد يصادفه في الحياة. فقصائد “مرثية إلى أمادو ديالو” و”نينو” و”لاماروكسيلواز” في ديوان “أكره الحب” تنهل من حيوات ومصائر شخصية جعلته -كما يقول- يكتشف خصوصيته الجديدة كأفريقي ومغاربي ومهاجر، وهو ما تواصل إلى حدود آخر قصيدة منشورة ضمن مجموعته الشعرية الجديدة “سيناريو مُرْتَجَلٌ لحياةٍ أقلَّ موتًا”.
الإبداع "المهجري" يرصع شجرة الأدب العربي المتحركة ويغنيها بالموضوعات الفنية ويقدم عوالم الهجرة خارج الصور الجاهزة
تلك القصيدة التي كتبَها في سبتمبر 2015 على خلفية تدفق اللاجئين إلى بروكسل وأوروبا عموما، والاستثمار الإعلامي الغربي لمأساتهم. حيث تحوّل “بارْكماكسيمليان”، هذا المنتزه المتاخم لمفوّضية شؤون اللاجئين ببروكسل، إلى مخيّم لاستقبال اللاجئين. وبالموازاة مع التضامن الأهلي للبلجيكيين من مختلف أصولهم وعبر العديد من هيئات مجتمعهم المدني، كان هناك استثمار سياسي وإعلامي واضح لهذه القضية. وأمام هذه المشهد، حاول ضيفنا توظيف بعض تقنيات السيناريو إمعانا في المشهدية لكي تأتي القصيدة كنقد لهذا الجاهز إعلاميا على مستوى تسويق المآسي واستثمارها سياسيا، فكانت محاولة للاشتباك مع قضايا المجتمع والتفاعل مع الأحداث في تعقيدها، في سبيل شعرنة الألم الفردي والجماعي باعتباره ألما إنسانيا.
الأضداد تجتمع في الحياة على نحو سافر. هناك الحب وهنالك الحرب وبينهما، عدا الرّاء التي تفصل بين الكلمتين في لغة الضّاد، العديد من الحالات المتجاورة والمتنافرة التي تشكّل جوهر الوجود الإنساني القائم على الصراع منذ الأزل، يقول طه عدنان. ولأن تلك القصائد مكتوبة على مدى خمس سنوات، فهي تحيط بحالات ومواضيع شتّى، لذا يعتبر أنّ لكل قصيدة مزاجها وسياقها. وإذ افتتح الديوان بقصائد حبّ، فتيمّنا، ربما، بالمقدّمات الغزلية لزمن المعلّقات. فالشعراء يكتبون معلَّقاتهم الصغيرة المعاصرة التي تعكس نبض هذا الزمن وآلامه.
الأدب قيمة
في ديوانه الصادر حديثا عن دار المتوسط في إيطاليا، يعمد طه عدنان إلى استخدام مسمّيات تتعلق بالتقنيات الحديثة التي باتت جزءا من حياتنا، فيسبوك، تويتر، واتس آب، وغيرها، في تكثيف للصورة الشعرية لتكون أقرب إلى المتلقي وأكثر واقعية في ذات الوقت. ضيفنا الذي قضى ما يقرب من نصف عمره اليوم هو مغترب ويعلن خشيته من هذا السيل الإلكتروني الجارف في الواقع المعيش، فبالقدر الذي يتيح فيه فيسبوك للناس فرصا هائلة للتعبير الفردي الحرّ والتواصل المستمر مع الآخر، بقدر ما يتيه في ردهاته الحوار العميق الهادئ ليعلو اللغط والزعيق.
|
وفي حديثنا عن أدب المهجر يعتقد طه عدنان أنّ الإبداع “المهجري” يرصّع شجرة الأدب العربي المتحرّكة ويغنيها بالموضوعات الفنية والمقترحات الجمالية. كما أنه يقرّب القارئ العربي من عوالم الهجرة خارج الصور الجاهزة التي يروّج لها الإعلام بشكل موسمي، وهذا التقريب قد يساهم في تشكيل وعينا بالذات والآخر على نحو أفضل.
لكنّ هذا الإبداع يبقى، على العموم، ثمرة لمعركة المواطنة الثقافية هنا وهناك، ويمكن ترسيخه باعتباره أيضا مكوّنا من مكوّنات الأدب متعدّد الثقافات في بلدان الاستقبال، فالأدب عند عدنان قيمة إنسانية مشتركة، فهو ينقل روح الشعوب ووجدانها أكثر مما يمكن للتقارير الإعلامية العجولة أو البحوث الاستراتيجية الموجَّهة أن تفعل، وبالتالي حضور المبدعين العرب في فضاءات المهجر، ضمن مختلف الفعاليات الثقافية الغربية مثلا، يعزّز حضور الأدب العربي في بلدان الاستقبال ويساهم في تقريب الجمهور الغربي من الثقافة العربية. وهو ما نحتاجه في سياق دولي موسوم بالتوتر ومساعد على تنمية مشاعر الخوف والكراهية وتخصيب التصنيفات المعمّمة والأحكام المسبقة، ليصبح العربي رديفا للإرهابي، واللغة العربية لغة عنف وتحريض، وفي أجواء ملبّدة تستغلها قوى اليمين المتطرف ومعها بعض وسائل الإعلام في تسميم الأجواء متقصّدة الخلط والتعميم.