الفوضى المطلبية تصل حد الذائقة الشعرية

إما أن تكون نقابيا أو سياسيا. أما أن تلعب على كل الحبال فهذا تغول واستقواء.. المزايدة باسم حقوق العمال من شأنها أن تضر بالعمال أنفسهم وسط أزمات اقتصادية خانقة تعصف بالمنطقة والعالم.
السبت 2022/12/17
"الخطوة خطوة".. سياسة مفقودة لدى النقابات

مازلت شخصيا، أحتفظ في ذاكرتي بقصيدة لأحمد شوقي، كانت من المقررات المدرسية، وتدخل الاتحاد العام التونسي للشغل، بكل ثقله ووجاهته عبر نقابة المعلمين، لإسقاطها من البرنامج وحظر تدريسها.

وبالفعل، تمكنت المنظمة النقابية العريقة في تونس، آنذاك، من منع الاقتراب من “القصيدة المحرمة” وشرحها وتحفيظها للناشئة بحجة أنها تهين العمال، وتحرضهم على بذل الجهد والتفاني في خدمة أرباب العمل، دون أن تذكرهم بحقوقهم المسلوبة مكتفية بإشارة محتشمة تفوح منها رائحة الرضاء والخنوع.

تقول القصيدة التي  نظمها أمير الشعراء وشاعر الأمراء أحمد شوقي

“أيها العمال افنوا العمر كدا واكتسابا

اطلبوا الحق برفق واجعلوا الواجب دابا

واستقيموا يفتح الله لكم بابا فبابا

إنما العاقل من يجعل للدهر حسابا”

المزايدة باسم حقوق العمال من شأنها أن تضر بالعمال أنفسهم وسط أزمات اقتصادية خانقة تعصف بالمنطقة والعالم

كان هذا سببا كافيا لتدخل الاتحاد صونا وحرصا منه على حقوق الطبقة العاملة.. فانظروا إلى أي حد ومدى طالت يده وسُمع صوته.. فما بالك لو وصل الأمر إلى النقاش حول الحقوق المباشرة المتعلقة بالرواتب أو ساعات العمل؟

وعلى ذكر ساعات العمل، فإن النقابيين في بلد ضارب في التقاليد الديمقراطية والحقوق العمالية مثل بريطانيا، يضربون للحصول على ربع ساعة لشرب القهوة صباحا ـ وليس للإطاحة بالحكومة أو تغيير منهج مدرسي ـ وينتظرون فترة من الزمن كي يضربوا مرة أخرى في سبيل الحصول على ربع ساعة لشرب الشاي بعد الظهر، وفق التقاليد شبه المقدسة لدى الإنجليز.

سياسة “الخطوة خطوة” أو ما يعرف بمبدأ “خذ وطالب” وغيرها من المهارات النقابية التي من المفروض أن تتوفر لدى القيادات، تبدو ضحلة وشبه مفقودة لدى النقابات في تونس، وذلك على الرغم من توفرها في نموذج الواقعية السياسية التي كان يمثلها الزعيم الحبيب بورقيبة في مفاوضاته مع الاستعمار الفرنسي أو حتى في رؤيته للصراع العربي – الإسرائيلي قبل هزيمة 67.

القيادات النقابية بدورها، كانت آنذاك، تتناغم مع سياسة المراحل، ولم تكلف نفسها أعباء جسيمة كي لا تخسر كل شيء، على الرغم من انخراطها في النضال الوطني.

اليوم، وبعد أن اشتد عود الاتحاد وقويت شوكته بفضل نضالات تراكمت على مدى عقود، وكذلك بسبب ضعف وارتباك الحكومات المتعاقبة، فإنه وبدل أن يكون شريكا مؤازرا للاتفاق الوطني وباحثا مشاركا في إيجاد الحلول، تحول في نظر الكثير من المراقبين إلى معرقل، فقط للإيحاء بأنه قوي وله الدور الحاسم.

الحقيقة أنه يستبق أزمات داخلية بتصعيد عشوائي ضد الحكومة من ذلك مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي التي يقول عنها الاتحاد إنه قد وقع تغييبه عن محتواها، وذلك على نية زرع التشكيك ومن ثم التنصل لاحقا من أي اتفاق يربطه بالحكومة بقصد إضعافها.

هذه المفاوضات مع صندوق النقد الدولي تضمنت بدورها ربط القرض الذي وعد به الخبراء تونس بإجراء الانتخابات ووجود برلمان منتخب يشرع القوانين ويفتك هذا الاختصاص من رئيس الجمهورية الذي يتولاه استثنائيا من خلال المراسيم… وكل هذه الأوراق السياسية يلعب عليها اتحاد الشغل متناسيا مهمته المطلبية، والتي هي جوهر طبيعته النقابية.

هل يريد أن يتحول الاتحاد إلى شبيه بحزب الله في لبنان في ازدواجية موقعه، حين يريد أن يتفاوض خارجيا بدل الدولة، وفي نفس الوقت يذكّر بأنه حزب سياسي له تأثيره في البرلمان والحكومة، حين تقتضي المصلحة ذلك؟

لو بسطنا الأمور واختصرناها إلى حد الكاريكاتير، فما ذنب وما دخل قارئ ومتذوق لشعر أحمد شوقي بمطلب شبه نقابي يتحسس من قصيدة عابرة في درس عابر

إما أن تكون نقابيا أو سياسيا، أما أن تلعب على كل الحبال فهذا تغول واستقواء.. هذا ما يقوله المنطق على أقل تقدير.

المزايدة باسم حقوق العمال من شأنها أن تضر بالعمال أنفسهم وسط أزمات اقتصادية خانقة تعصف بالمنطقة والعالم.

لا بد من الإقرار بأن الحقوق العمالية نفسها تراجعت حتى في العالم الديمقراطي المتحضر وسط تدهور شروط العمل بسبب تزايد أعداد الدول المتنافسة في مستويات الدخل والرواتب والتكاليف، وكذلك بسبب تحرير الأسواق المالية وأسواق رأس المال، مما أثار موجة من الاستثمارات الخارجية المباشرة والمضاربات.

كل هذه المعطيات ليست في صالح العمال، وأصبح من الرفاهية الآن التكلم عن حقوق جانبية، مادية كانت أم معنوية رمزية مثل التطرق إلى “مقرر مدرسي يهين العمال” في بلد ضعيف الاقتصاد وشحيح الموارد مثل تونس.

الأمر الآخر الذي ينبغي التوقف عنده هو أن الفوضى المطلبية الناتجة عن غياب التعددية النقابية، والالتفاف حول مركزية مهيمنة إلى حد التدخل فيما لا يعنيها من شأنه أن يعطّل قطاعات ومؤسسات مختلفة ويصيبها بالشلل.

وإذا أضرب عمال النقل مثلا، فإن كل القطاعات الأخرى ستتضرر من جراء مشاركتها غير المباشرة وغير المقصودة وغير المقررة في إضراب حول مطالب لا تعنيها.

ولو بسطنا الأمور واختصرناها إلى حد الكاريكاتير، فما ذنب وما دخل قارئ ومتذوق لشعر أحمد شوقي بمطلب شبه نقابي يتحسس من قصيدة عابرة في درس عابر.

8