الفن وحده يستطع تحويل دمية القش إلى كائن آخر

"فزاعة الحقول" تتحول إلى رمز فني استوحاه العشرات من التشكيليين كثيمة محورية في معرض جماعي بالقاهرة.
الخميس 2018/12/27
جماليات الفزع تفجر خيالات الفن

كل المرئيات أمامنا تنطوي على أسرارها وجمالياتها الخاصة، وللفن أيضًا عيونه الاستثنائية، القادرة على التقاط العناصر والمفردات الخفية في الأشياء، للتعبير عنها بطرائق متعددة لا تنفد، بحسب رؤية كل مبدع وتصوره الفردي. من هنا كان استلهام “فزاعة الحقول” في العديد من النصوص الأدبية والصور والأفلام واللوحات التشكيلية، لتصبح رمزا فنيا راسخا يتجدد في كل مرة.

القاهرة – تحوّلت دمية “فزّاعة الحقول” ذات الجذور التاريخية، المعروفة في الريف المصري باسم “خيال المآتة”، إلى رمز فني شديد الثراء استوحاه العشرات من التشكيليين كثيمة محورية في معرض جماعي بالقاهرة لأعضاء جماعة “اللقطة الواحدة”.

واستلهم فنانو جماعة “اللقطة الواحدة” أيقونة معرضهم الأخير من كائن مألوف في الذائقة الشعبية هو “خيال المآتة”، ليحمّلوه بكل ما يتسع له الحلم من خيالات جامحة، فلم يعد في لوحاتهم مجرد مفزع للطيور أو هدف للتدريب على الرمي أو حتى كناية نمطية عن الفشل والشكلانية والفراغ من المحتوى.

يمكن القول، بلا مبالغة، إن فناني “اللقطة الواحدة” في معرضهم 34 بقاعة صلاح طاهر في دار الأوبرا المصرية بالقاهرة (20- 26 ديسمبر) قطعوا شوطًا غير هيّن في تسطير محطة جديدة لـ”جماليات الفزع” في المشهد التشكيلي المعاصر، فالفزّاعة المألوفة لدى البشر العاديين جرى تشريحها واستنطاقها واستنباط مكنوناتها بعيون فنية أنتجت 156 قراءة بصرية مختلفة الدلالات لهذا الرمز الخصيب، أبدعها 71 فنانًا من أجيال وتيارات تصويرية متباينة بخامات وتقنيات متعددة.

تناول الفنانون “خيال المآتة” في عوالم وبيئات تبدو بعيدة عنه في الحقيقة. وبغض النظر عن الانتماءات المدرسية والمذهبية، والخلفيات الأكاديمية والمعرفية، لدى فناني “اللقطة الواحدة”، فإن أعضاء هذه الجماعة ينطلقون عادة من فلسفة تقوم على اعتماد الدهشة والمباغتة والتلقائية والضربة الأولى للفرشاة بغير تخطيط مسبق، بهدف تحرير الفن من قوالبه وجموده، واصطياد التفاصيل ودقائق الأمور والحالات الجوهرية للبشر والكائنات والأشياء من حولنا.

ابتكارات الفرد

 "خيال المآتة" من رمز للفزع والإخافة إلى جماليات فنية
 "خيال المآتة" من رمز للفزع والإخافة إلى جماليات فنية

على الرغم من أن الجماعة، التي تأسست في عام 2002 بقيادة الفنان عبدالعزيز الجندي أستاذ الغرافيك بكلية الفنون الجميلة، تمارس نشاطها وفق توجه مشترك، بمعنى انتقاء ثيمة واحدة للمعرض والالتقاء الأسبوعي الدوري للفنانين في أمكنة مفتوحة لممارسة “الفن الحي الفطري” في الهواء الطلق، فإن وجه التميّز للجماعة يتجلّى في معنى “الذاتية”.

ما أثبته فنانو معرض “خيال المآتة” هو ببساطة أن الفن يعني ابتكارات الفرد في المقام الأول وليس مظلة التيار الجامع، فإذا كان “خيال المآتة” وفق المنظور القاموسي والموروث الإنساني لا يخرج عن الدمية البشرية المصنوعة من القش والقطن والأقمشة لإخافة الطيور أو جذب انتباه الثيران أو لكي تكون هدفًا للتدريب على الرمي وما إلى ذلك، فإن نظرة الفن لا يمكن حصرها في نطاق ضيق أو محدد، فهنا “الجماعة” تهيئ المثير الفني فقط، أما الفن نفسه فحصيلة الإبداع الفردي.

“الفن هو القدرة على تخليق دلالة من العدم، وإحداث انزياحات جمالية في دلالات ومعرفيات قائمة”، هكذا ترى الفنانة مريم مصطفى، المعيدة في كلية الفنون التطبيقية، التي قدّمت أربع لوحات جسّدت علاقتها بخيال المآتة مستخدمة الألوان المائية الشفافة (الأكوريل) على المسطح الأبيض الورقي.

نزعت مريم في لوحاتها إلى التأثيرية والانطباعية، موضحة أنها تعاملت مع “خيال المآتة” ليس بوصفه دمية، وإنما كإنسان محمّل بالذكريات والمخزون التاريخي الممتد، وله قدراته التفاعلية مع البشر المحيطين به، وكافة عناصر الحياة.

وتقول في تصريح لـ”العرب”، “عبّرتُ عمّا حلمتُ به، وليس عما رأيته بعين اليقظة. جماليات الفزع بلا حدود، الشبح أحد عناوينها، وخيال المآتة أحد عناوين الشبح. في داخل كل منّا شبح مقيم، خافٍ وظاهر، ربما”.

من جهتها، صوّرت الفنانة التونسية فائزة محرزي خيال المآتة منسجمًا مع المشاعر الداخلية لشجرة تواجه الخوف بسبب تقلبات الطبيعة وليس فقط بسبب هجمة الطيور، وتقول محرزي عضو مجلس إدارة اللقطة الواحدة لـ”العرب”، “في مختلف الدول هناك فزاعة حقول، نسميها في تونس إيبوفونتاي (بالفرنسية: Épouvantail)، وفي مصر خيال مآتة، وفي لغة الفن فإن الدلالات والترجمات والإحساس بالحالة أوسع وأشمل”.

تثمّن محرزي تجربتها في الرسم في بيئات شعبية وأثرية وتاريخية مصرية، موضحة أن زخم الحياة وعمقها البصري والروحي في الطبيعة المصرية من عوامل تغذية الفنان بقيم جمالية لا تتوفر في أمكنة أخرى.

فروسية وسخرية

إبداعات شخصية، يتحرر من خلالها الشباب من مفهوم الموروث الشعبي الضيق
إبداعات شخصية، يتحرر من خلالها الشباب من مفهوم الموروث الشعبي الضيق

إلى جانب استلهام “خيال المآتة” كرمز للفزع والإخافة، وتحوله إلى شيطان آدمي أحيانًا، فإنه اتخذ في أعمال المعرض تجسدات كثيرة مختلفة، سواء كشبح أسطوري أو سلطان باطش أو شجرة ضالة بغير أوراق أو لاجئ إلى الطبيعة البكر من جحيم المدينة، كما ظهر أيضًا كمُلهِم وفارس وثائر ومتمرد، ونسج الفنانون حوله كل هواجسهم حول الحرية والجنون وأبجديات التهكم والسخرية.

ربما يستمد الرمز خلوده من سُكناه في ذاكرة الفلاحين البسطاء، لكنّ يد الفن التي امتدت إليه نفخت فيه من روحها، فاكتسب إشراقًا أبديًّا. وفي لوحات عبدالعزيز الجندي، مدير الجماعة، يتحلّل خيال المآتة من شكله، وتتماهى خلاياه الخضراء والبنية مع كلوروفيل النباتات وسليولوز أنسجتها، وذرات الطين في أرض القرية، التي تمتد فيها جذوره، ويرضع منها المياه والحكايات الشيقة، المسلية والمخيفة في آن. وإذا نطق خيال المآتة ذات ليلة، فإنه يتحدث أيضًا بحروف هذه الأرض.

وبالتجوّل في قاعات المعرض المتعددة، حيث أعمال نهلة عبدالسلام وأحمد مرسي ومنى الصناديلي وفاتن علاء وأحمد أشرف، يختلط الوعي باللاوعي، حيث يطالع الرائي تحوّلات غرائبية، فالشجرة وخيال المآتة يتبادلان الأدوار والمقاعد، وخيال المآتة يصير صديقًا للطيور والأسماك ويسكن في داخل بيوت الطمي ويتطاير في الهواء مع الانفجارات الكونية.

في لوحات دينا حسام وأحمد الناهي وهند زايد وسيد محمد سيد ونوران عباس وغيرهم تجليّات أخرى لا سقف لها، منها تحوّل خيال المآتة إلى صياد ممسك ببندقية قنص، ومحارب يتجوّل وسط كرات اللهب، وغريب يطرق باب القرية طالبًا حق اللجوء، وعلامة إرشادية في مفترق الطرق.

“خيال المآتة”، معرض جماعي ينتصر للإبداعات الشخصية، يتحرّر من خلاله الشباب من مفهوم الموروث الشعبي الضيق، ليقدّموا فنهم الحداثي المبتكر غير منقطع الصلة بالجذور.

14