الفنون البحرية في صور العمانية رحلة عبر أمواج التراث

تشتهر ولاية صور العمانية بالصيد وصناعة السفن، وتمتزج فيها الفنون البحرية بالحياة اليومية، فتعبّر عن هوية البحّارة في الماء والميناء، من خلال أنغام ترتبط بالعمل والبيئة، لتتحول المهن البحرية إلى إرثٍ فنيٍّ نابضٍ بالحياة.
صور (سلطنة عمان) - اشتهرت ولاية صور قديمًا، ولا تزال، بصناعة السفن والصيد والنقل البحري، ولها تاريخ عريق في هذا المجال.
في صور، تلتقي أمواج البحر بأنغام الإبداع؛ فالولاية تقف شاهدةً على تناغم الفن مع الحياة حيث لا تكتفي الفنون البحرية بمرافقة البحارة في أعمالهم، بل تتحول إلى لغة تعبّر عن هويتهم، وتنسج من إيقاعات العمل وتحديات البحر لوحةً ثقافيةً نابضة بالحياة.
تتميّز الفنون البحرية في صور بقدرتها الفريدة على التكيّف مع طبيعة العمل؛ فالنشاطات التي تتطلب سرعة ودقة في الحركة تتناغم معها أنغامٌ سريعة الإيقاع، سلسة النسق، كما لو أنها نسمات تهبّ مع الشراع، في حين ترافق الألحان الهادئة الأعمال التي تحتاج إلى تركيز وبطء، فتنشر في الأجواء روح التأمل. وهكذا، يُصبح الفن هويةً معنويةً تُجسد تفاصيل الحياة البحرية.
البحر في صور ليس مجرد مساحة مائية، بل هو مصدر إلهام لا ينضب.
فبتضاريسه المتنوعة، أفرز هذا البحر فنونًا تختلف باختلاف المكان والنشاط؛ منها ما يتعانق مع رمال الشاطئ، ومنها ما يتردد أثناء الإبحار، وأخرى تنطلق بين الشاطئ والسفينة. بعض الفنون لا تُؤدّى إلا على سطح السفينة العائمة، بينما تظل أخرى حصرية للحظات الرسو. هذا التنوّع يعكس العلاقة الوثيقة بين الإنسان والبيئة، حيث يتجلّى الإبداع في كل موجة، وفي كل رحلة.
لم يكن الإبحار في صور مجرّد رحلةٍ عملية، بل كان احتفالًا فنيًا، فقد حرص “النواخذة” على تجهيز سفنهم ليس فقط بالأدوات البحرية، بل أيضًا بالآلات الإيقاعية ومنشدين متمرسين يتقنون فنون الشعر والأداء. كان الفن رفيقًا دائمًا، يخفف من مشقة البُعد، ويوقد الحماس في النفوس.
وتتعدد الفنون البحرية في ولاية صور، ولكل منها طابعه الخاص المرتبط بنشاط معين، فـالشوباني فن يميز بحارة صور، يجمع بين العمل والتسلية، ويُؤدى على سطح السفينة، حيث تتمايل الأنغام مع حركة الأمواج. أما المديمة، فهي أنغام تُستخدم للتسلية على متن السفينة، سواء في عرض البحر أو أثناء الترسّن في الموانئ.
ونزغة الدكل فن غنائي مصحوب بإيقاع الطبول، يُؤدّى أثناء نصب الدكل (صاري السفينة)، الذي يتفاوت عدده بحسب حجم السفينة.
وهناك أيضًا خزر الدكل، وهو غناء يُرافق تثبيت الدكل، ينسجم فيه الصوت مع دقة العمل، وصكبة الدكل بأنغامها التي تعكس جهد البحارة أثناء سحب الدكل. ومن الفنون البحرية أيضًا نزغة الشراع أو رفع الشراع، وهي أبيات يُترنم بها عند رفع الشراع، تتزيّن بأنغام تعبّر عن الاستعداد.
أما تهليبة الشراع، فهي إعلان إنزال الشراع، ويُقال فيها، “أذّن يا بلال وصيح، معلم فوق منارة، وفي الدنيا نصيح.” وتُؤدّى جرة الباورة أثناء سحب المرساة، وتُردّد فيها عبارات مثل، “هي يا الله” أو “يا الله.”
ويعكس فن جرة الماشوه إيقاع المجاديف مصحوبًا بالغناء، أما رفع الماشوة، فيُعبّر عن لحظة تثبيت الماشوة، وهي نوع من القوارب العُمانية تُستخدم لنقل الشحن أو تفريغ حمولة السفينة في المياه الضحلة التي لا تسمح باقتراب السفن الكبيرة من الميناء أو الشاطئ.
ومن الفنون البحرية الأخرى أيضًا فن القلفاط، الذي يُرافق المرحلة الأخيرة من صناعة السفينة. تحل فيه المطارق محل الإيقاعات، ويُقصد بالقلفاط عملية سدّ الفجوات بين ألواح السفينة باستخدام فتائل من القطن المشبعة بزيت الحوت.
أما التكويرة، فهي احتفال غنائي راقص عند إنزال السفينة إلى البحر، بينما يُرافق التحميل (نقل البضائع إلى السفينة) رقص خفيف وتصفيق، ويتكرر الأمر نفسه في التنزيل عند تفريغ الحمولة.
وعند صيانة السفينة في المحيّدِب، يترنم العمال بأغانٍ هادئة تُعرف بـالمسوبل، في حين ترافق العمار، ألحان دقيقة تؤدى أثناء ترتيب الحبال على السفينة.
أما تعميرة الشباك، فهي فن يُؤدّى أثناء إصلاح الشباك، دون آلات موسيقية. ومن بين الفنون المميزة أيضًا الصوت البحري، وهو حوار غنائي تقليدي يُقال فيه مثلًا، “يا من عزم قال هيا، طلعت نجوم الثريا.”
ولصيادي البحر أنغام خاصة تُعرف بـصيد السمك، تُعبّر عن طقوسهم وعلاقتهم بالبحر، فالفنون البحرية ليست مجرد ألحان عابرة، بل هي نبض من التراث، يروي قصص البحارة وتحدياتهم، ويُجسّد ارتباط الإنسان بالبحر، حيث يتحول العمل إلى إبداع، والتحدي إلى فن.