الفنانة الإسبانية إيما مونتويا ترسم قصائد لونية مفعمة بالموسيقى

يمكن للفن التشكيلي أن يحرر عناصره من محدوديتها ونمطيتها ليذهب بها بعيدا إلى تشكلات أخرى، يستنطقها ويخرج منها أفكارا وخطابات جديدة، وهنا تكمن رؤى كل فنان وقدرته على الخلق. ولعل الفنانة الإسبانية إيما مونتويا اختارت تحرير الأشخاص من كونهم أجسادا أخرى وتذهب بهم عبر نظرة بانورامية في رحلة إلى أفكار مدهشة.
ما سيلفت نظرك كمشاهد عند وقوع عينيك على أعمال الفنانة الإسبانية إيما مونتويا المعروضة بدار الفنون بطرابلس في الفترة ما بين السابع عشر والتاسع عشر من شهر سبتمبر للعام الجاري، ضمن معرض يحمل عنوان “قصائد الماء” هو شغف الفنانة برسم الناس الذين تكاد لا تخلو منهم لوحة تقريباً وبأعداد كبيرة، وبحركات سريعة كما لو أنها تريد احتواء المشهد قبل أن ينفرط أو حتى قبل أن يختفي.
والأهم من رسم الناس بهذه الكيفية هو رسمهم بطريقة أيضاً سريعة من الأعلى أو من زاوية غير معتادة، فالكثير من اللوحات تُصور الناس من الفضاء كما لو أن الفنانة تقترح على المُشاهد أو تمنحه جناحي طائر ليرى من زاوية غير معهودة المشهد المُصور بألوان الزيت.
نظرة بانورامية

اللوحات تُصور الناس من الفضاء فالفنانة تقترح على المُشاهد جناحي طائر ليرى من زاوية غير معهودة
تصوير من أعلى جعل الفنانة كما لو أنها تأخذ بيد المشاهد إلى فضاء المشهد ليُلقي نظرة بانورامية عليه من علو محسوب بحيث لا يغيب تفصيل ولا تنقص جزئية، ورغم أن الماء الذي يستحوذ تصويره على جزء كبير من أعمال المعرض إلى حد أن عنوان المعرض استُلهم مِنهُ واشتُقَ إلا أن التصوير من الأعلى نافس الماء في رسوخه في اللوحات، وكاد أن يتفوق عليه أحياناً كعنصر متكرر ولافت ومهيمن على فضاء الأثر البصري.
أرضية ذات لون طيني أو سماوي أو مائل للاخضرار أو رمادي رصاصي معجون بالبني، وبقعة واسعة – أو توحي بالاتساع – وخلفية سوداء داكنة تظهر هنا وهناك في مساحة اللوحة لتمنحها شيئا من الدراماتيكية والخفة، هو كل ما تحتاجه الفنانة لتستدعي شخوصها الموسومة بالتنوع وتبثهم في الأرجاء.
كما أنها لا تنسى وهي تبعثرهم وتبتعد بهم عن السكون وتضعهم في حالة حركة وصخب، أن تسبغ عليهم نوعاً من الحيوية، فالشخوص إما أنها تمشي أو حتى تجري، خاصة في تلك اللوحات التي تصور الرياضة الإسبانية الحصرية والشهيرة، مصارعة الثيران أو مهرجان إطلاق الثيران وجري الحشود أمامها في وقت تكون فيه الثيران في أعلى درجات عدوانيتها بفعل أسباب عديدة، وهي الرياضة التي طالما وقفنا أمامها وقمنا بمشاهدتها ونحن مندهشين، ومعجبين أحيانا بهذا القدر من الجرأة والمغامرة والجنون الذي يمتلكه المشاركون في العرض.
والناظر إلى اللوحات متعددة الاشتغالات سيدرك أن هنالك شيئا من الجرأة أيضا في طرح ومزج الألوان على السطح قبل توزيع الأشخاص بلمسات دقيقة وضربات خاطفة من الفرشاة تُظهر خبرة الفنانة وتمكنها من أدواتها وتعكس طول معايشتها للألوان والخطوط والرسم بصفة عامة.
وفي كل الحالات ليس هنالك ما هو أكثر لفتاً للانتباه من رؤية حشد من الناس في بقعة واحدة وهو ما برعت الفنانة في تجسيده بخطوات فيها الكثير من الثقة والمهارة والدراية من خلال الزاوية العمودية بخلاف جل الأعمال الفنية التشكيلية التي تصور الناس أفقياً ومن زوايا نمطية.
قصائد لونية

نحن كمتلقين لا نعرف بالتحديد ما الذي تعنيه الفنانة بهذه الرسومات المزدحمة وتغيب عنا دلالاتها كونها تميل أيضاً إلى التجريد وتأخذ منه بقدر لا بأس به، إضافة إلى أنها ذات نظرة ثقافية تختلف عن ثقافتنا، سوى أننا لن نتأخر في التفاعل معها نظرا إلى اختلافها عمَّا اعتدنا عليه – خاصة في المشهد التشكيلي المحلي – فلا شك في أن ما رأيناه في هذا المعرض يختلف تماماً عمّا يمكن أن نشاهده، وهو في حد ذاته مغنم كبير وأمر لافت ومثير للاهتمام.
ثم إن استضافة فنانين أجانب ذوي تجارب مختلفة، فكرة صائبة لأن ذلك سيسهم بشكل أو بآخر في تطوير الحراك التشكيلي في ليبيا وسيُكسب الفنانين المحليين خبرات جديدة ومهارات إضافية واحتكاكا مطلوبا في كل الأحوال، ولربما أسفر هذا الحراك التشكيلي عن مشاريع مشتركة وتراكمات فنية نحن في أمس الحاجة إليها لمكافحة القبح الذي يتخلل تفاصيل حياتنا، خاصة في هذا الوقت من تاريخ ليبيا وفي هذه المرحلة التي تمر فيها البلاد بتحديات كبرى.
وحتى تتجاوز كل العقبات التي ترتكز أمام استقرارها تحتاج البلاد إلى الكثير من الجهد والعطاء في جميع المجالات ومجال الفنون هو أحد أهم الاحتياجات التي ينبغي توفرها في أي خطة تهدف إلى زرع بذور السلام والاستقرار والتسامح والمحبة بين أفراد الشعب الواحد.
وتبعاً لعنوان المعرض الذي يحيل صراحةً على الشعر، سنبحث عن أثره في الأعمال المعروضة ولا شك في أننا سنعثر على ما يؤيد هذا العنوان إذا ما اعتبرنا أن اللوحات قصائد لونية لا ينقصها التناغم ولا الإيقاع ولا الموسيقى الخفية ولا الصور الشعرية التي تتالى بهدوء ولا المعاني والدلالات التي تنطوي بداخلها في انتظار من يزيح الستار عنها لتتجلى بوضوح أعمق.