الفرانكوفونية: تحديات الوجود وآفاق الانتشار

في 20 مارس الماضي، وبمناسبة اليوم العالمي للفرانكوفونية، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن سلسلة إجراءات جديدة تدعم مكانة اللغة الفرنسية في العالم من خلال استراتيجية تركز على القارة الأفريقية، ولكن مع تجنّب الخوض في الماضي الاستعماري لفرنسا في تلك الدول.
وفي زيارته لتونس فبراير 2018، قال ماكرون إن تونس ستكون خلال سنتين، قاعدة جديدة لتعليم اللغة الفرنسية، مُشيرا إلى أنّ الفرانكوفونية سوف تساعد التونسيين والتونسيات على النجاح في عدة مجالات أينما حلوا، مؤكدا أن الفرانكوفونية ليست مشروعا قديما، بل هي مشروع مستقبلي، فتحدث اللغة الفرنسية يُعد، برأي ماكرون، فرصة حقيقية، على المستويات اللغوية والاقتصادية والثقافية.
لكن في الحقيقة، وعلى مدى الأيام الماضية، فقد تجدّد الجدل وتصاعد حول أهمية اللغة الإنكليزية في بعض دول الفرانكوفونية التي شهدت طغيانا استعماريا فرض لغته وثقافته، وبشكل خاص في الدول العربية في شمال أفريقيا من قبيل تونس والمغرب والجزائر.
فمع توسع الاهتمام باللغة الإنكليزية التي أصبحت لغة الجامعات والبحوث وكبرى الشركات العالمية، بدأت بعض الدول الفرانكوفونية، بما فيها الأم فرنسا التي تدافع بقوة عن لغتها، تستشعر تأخرها في مواكبة سرعة نشر البحوث العلمية والدراسات الثقافية باللغة الإنكليزية.. حتى أنّ رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب اعترف بأن الإنكليزية اليوم هي اللغة المهيمنة للتفاهم بين الشعوب، مُخاطبا طلاب بلاده “عليكم أن تتحدثوا بالإنكليزية إذا أردتم أن تتصرفوا وتتعاملوا في ظل العولمة”.
العلاقة بين الحضارات واللغات في العالم لا تشير بالضرورة إلى ما قد يترتب على العلاقات السياسية والعسكرية من نتائج سلبية عادة، من قبيل الاستعمار والهيمنة وغيرهما، بل إن للتبادل الحضاري واللغوي والثقافي آثارا إيجابية إن تم تأصيلها في سياق وعي سياسي وجماعي يقبل الآخر ولا يلغيه، ويدخل في علاقة تبادل هادئة مع المختلف تؤدي إلى المزيد من الاندماج والتواصل وتؤمن بالثراء والتكامل الإنسانيين. انطلاقا من هذا الفهم الحضاري يمكن تبين أن الفرانكوفونية يمكنها أن تكون عامل إثراء ودافع حوار، بدل أن تكون معبرا عن حقيقة تاريخية استعمارية
ووفقا للأمينة العامة للمنظمة العالمية للفرانكوفونية ميكاييل جان، فقد أظهرت أرقام رسمية أن 5 في المئة فقط من النصوص في المفوضية الأوروبية تمّت كتابتها بالفرنسية في العام 2014 مقابل 40 في المئة في 1997.
وفي دول المغرب العربي التي اخترقت فيها الفرانكوفونية مختلف مظاهر الحياة الرسمية والعامة كالمؤسسات الحكومية والتعليم والشركات وحتى أسماء الشوارع والمحلات، ونتيجة للهيمنة الثقافية الأميركية والبريطانية المُتزايدة في كل يوم، تتعالى الدعوات إلى استبدال اللغة الفرنسية باللغة الإنكليزية، بينما تواصل الجزائر بالذات تأكيد رفضها الانضمام إلى رابطة الدول الفرانكوفونية، في مفارقة ما زالت مُستغربة إلى اليوم.
لكن بالطبع هذه ليست حال الجزائريين، والأفارقة عموما، وكذلك السوريين، المُقيمين اليوم في فرنسا وأوروبا، إذ أنّ مقولة المفكر الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته “من لا يعرف لغة أجنبية، لا يعرف شيئا عن لغته”، تؤكد أنّ تعلم لغة البلد المُضيف، يُعدّ عاملا مهمّا للاندماج في المجتمع والحوار مع الآخر ومعرفة ثقافته، وبالتالي يُشكّل ذلك حصنا منيعا ضد سوء الفهم والأفكار المسبقة.
الكاتب الجزائري الراحل كاتب ياسين، كان يرى أنّ اللغة الفرنسية هي “غنيمة حرب”، لذا يجب على الجزائريين استثمار هذه الغنيمة. بينما يتساءل السينمائي سالم الإبراهيمي “عندما نكون جزائريين، تشكل اللغة الفرنسية والفرانكوفونية لدينا موضوعا معقدا، لكن كيف باستطاعتنا أن ننكر هذه اللغة التي اندمجت حتى في اللهجة الجزائرية؟”.
تضم الفرانكوفونية اليوم 84 دولة من بينها 58 دولة عضوا و26 دولة تتمتع بصفة مراقب، ويتم تصنيف اللغة الفرنسية بأنها السادسة عالميا من حيث الانتشار، إذ ينطق بها حوالي 275 مليون شخص في العالم، منهـم 96 مليون نـاطق بالـفرنسية في أفـريقيا.
وبالطبع، لم تعد الفرانكوفونية تقتصر فقط على المصالح الإقليمية والدولية بجوانبها المُختلفة، لكنّها عامل توحيد يرفض انحسار الثقافات، بل وتكشف عن قوى ثقافية عالمية جديدة.
ولعلّ افتتاح فروع لكل من متحف اللوفر وجامعة السوربون في العاصمة الإماراتية أبوظبي، والتي اهتمّ بها الإعلام والرأي العام بشكل واسع في فرنسا وفي مختلف الدول الفرانكوفونية، إنّما يكشف عن صعود مراكز ثقافية مرموقة جديدة على المستويين العربي والدولي، وبما يُتيح اكتساب وسائل اتصال لغوية جديدة تفتح مجالات أخرى للإبداع، حيث يزداد الإقبال هناك على تعلّم اللغة الفرنسية بنحو ملحوظ.
وهذا ما يؤكد بالطبع أن الفرانكوفونية هي شكل من أشكال الإنسانية والحضارة، وهي طريقة تفكير وممارسة، على حدّ قول ليوبولد سيدار سينغور، الأديب والشاعر والرئيس السنغالي الراحل.