الغموض المتعمّد

في رحلة قصيرة إلى ميونيخ نهاية العام الفائت، أخذت معي كتابا بعنوان “نظرية الاستثناءات” للكاتب الفرنسي فيليب سولرس الذي كان من أشهر دعاة الأدب الطليعي في أول الستينات من القرن الماضي. وللدفاع عن أفكاره، أسّسَ مع بعض من رفاقه مجلة “تال كال” التي احتضنت أهم النقاد والمفكرين الذين لمعوا في تلك الفترة أمثال جاك دريدا، وميشال فوكو، وأمبرتو إيكو، وجوليا كريستيفا، وتزيفان تودوروف، وميشال دوغي، وآخرين. وظلت المجلة تتابع بالنقد والتّمحيص الحياة الفكرية والثقافية والفنية لا في فرنسا وحدها، بل في جميع البلدان الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية حتى عام 1982.
لكن من أن قرأت بعض المقالات، وكانت عن جويس، وفوكنر، وفرويد، ودستويفسكي، حتى تبيّن لي أن فيليب سولرس يتفنن في التعقيد والغموض والإبهام إلى درجة أني أحسست بأنه -أي سولرس- لا يوضّح لي أفكار من ذكرت، ولا يشرح أعمالهم، ولا يسبر أغوار عوالمهم، بل هو يمعن في إخفائها بكثير من التكلف والتصنع، بحيث لا ألتقط منها في النهاية إلا ومضات لا تفيد ولا تفي بالغرض. لذا تركت الكتاب غير آسف. وهذا ما بتّ أفعله مع كل الكتب من هذا النوع، مُفضّلا عنها تلك التي تساعدني على فكّ ألغاز أعمال شهيرة، والتعريف بمن أحدثوا “ثورات” في مجال الكتابة الشعرية أو الروائية أو الرؤى والمناهج الفلسفية أو غيرها.
ومن بين هذه الكتب يمكن أن أذكر الكتب الثلاثة التي خصصها الروائي الكبير ميلان كونديرا لفن الرواية، والدراسات النقدية التي كتبها فلاديمير نابوكوف عن أعمال مارسيل بروست، وجيمس جويس، وجوزيف كونراد، وغيرهم من كبار الروائيين المعاصرين، والمجلدان اللذان تضمنا الكتابات النقدية لإيتالو كالفينو، ومجلد تضمن مختارات من النصوص النقدية التي اهتم فيها تي. آس. إليوت بشعراء أثّروا فيه أمثال بودلير، وجون دون، وجيل لافورغ، وويليام بليك.
وأذكر أن الدراسة البديعة التي عرّف فيها الراحل الكبير جبرا إبراهيم جبرا بفوكنر من خلال رائعته “الصخب والعنف” هي التي حرّضتْني على قراءة أعمال هذا الكاتب الذي كان له تأثير كبير على كتاب عرب أمثال غسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا نفسه، وغادة السمان، والطيب صالح.
ولا أبالغ حين أقول وأنا واثق من نفسي إن دراسات النقاد المكثفة والمركزة يمكن اعتبارها مفاتيح أساسية لفهم عوالم رموز الأدب العربي الكلاسيكي.
والحقيقة أن الغموض المتعمّد لدى البعض من الكتاب والنقاد والمفكرين الفرنسيين لا يتعلق فقط بالنقد الأدبي، أو بالدراسات الفكرية، بل يشمل الشعر أيضا. وأنا أقرأ أحيانا قصائد لشعراء فرنسيين يبالغون في التعقيد والغموض إلى درجة يفقد فيها الشعر جوهره وألقه وومضاته البديعة ليتحول إلى ألغاز وطلاسم يَعْسُرُ فهمها. لكأن القصيدة عندهم لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى الحداثة الشعرية إلاّ إذا جاءت مُعْتمة ومُلتبسة وغَائمة.
وهناك شعراء عرب تفتنهم التقليعات الغريبة. وبينهم من لا ينكرون تأثرهم بهؤلاء الشعراء الفرنسيين. ومثلهم هم مُغرمون ومفتونون بالتعقيد والغموض. لذا من الطبيعي أن يقرؤوا قصائدهم في قاعة فارغة من عشاق الشعر.