العوامل الحاسمة التي يمكن أن تسهّل أو تعيق تطبيع العلاقات بين تركيا وسوريا

بالنظر إلى طبيعة الملفات الخلافية بين تركيا وسوريا لا يمكن أن تكون عملية التطبيع بين الجانبين سلسة. ورغم أن التطورات الدبلوماسية الأخيرة كسرت جزءا من الجمود في العلاقة فقد يختلف المشهد عند الغوص في التفاصيل.
دمشق/إسطنبول - تدفع تركيا إلى إعادة التواصل مع سوريا بعد إنهاء العلاقات في عام 2011، مدفوعة بمخاوف أمنية إقليمية وضغوط سياسية محلية ومشهد جيوسياسي أوسع. وتشمل الأهداف الأساسية لأنقرة معالجة مشكلة التهديد الذي تشكله وحدات حماية الشعب الكردية، وتسهيل عودة اللاجئين، والسعي إلى الاستقرار السياسي في سوريا. وهي الإجراءات التي تتأثر كثيرا بروسيا والولايات المتحدة.
ومن وجهة نظر دمشق، فإن المصالحة مع تركيا أمر بالغ الأهمية لتعزيز السيطرة السورية على المشهد السياسي المستقبلي وتحقيق التعافي الاقتصادي من خلال إعادة تأسيس الروابط التجارية، لكنها تظل حذرة من إضفاء الشرعية على الوجود العسكري لأنقرة على أراضيها.
ويسلط الباحثان سنان حتاحت وعمر أوزكيزيلسيك في تقرير نشره المعهد الأطلسي الضوء على المعالم الدبلوماسية الرئيسية والعوامل الأساسية التي تؤثر على التفاعلات، ما يحدد العوامل الحاسمة التي يمكن أن تسهل أو تعيق تطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة.
إن الوضع الحالي في سوريا يفرض مخاطر على الأمن التركي، ما يدفع إلى البحث عن حلول جذرية للتحديات متعددة الأوجه التي تواجهها. وبدءًا من عام 2019 تشكلت التطورات في سوريا من خلال المصالح الروسية – الأميركية المشتركة في منع التدخل التركي في البلاد، وعلى وجه الخصوص حماية قوات سوريا الديمقراطية التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب.
وقد منع وجود الجيش الروسي واحتمال فرض عقوبات اقتصادية من الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا الجهود التركية لشن عمليات عسكرية في سوريا. ويبدو أن ثلاث عمليات عسكرية تركية مخططة على الأقل قد تم منعها بسبب هذه العوامل. وتحتاج تركيا إلى معالجة الوضع في شمال شرق سوريا، وخاصة لأنها فقدت الأمل في أن تحل الولايات المتحدة مخاوفها الأمنية المتعلقة بقوات سوريا الديمقراطية.
وتنظر أنقرة إلى الشراكة الأميركية مع وحدات حماية الشعب، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، باعتبارها تهديدا للأمن القومي. ولدى تركيا ثلاثة أهداف رئيسية في سوريا: القضاء على تهديد وحدات حماية الشعب، وتسهيل عودة اللاجئين، والسعي إلى حل سياسي للاستقرار على المدى الطويل.
◙ روسيا تعتقد أن تركيا تسعى إلى تحقيق أجندة مستقلة في سوريا، وهو ما قد ينحرف عن أهداف الدول الغربية
وهناك مشاعر معادية للاجئين ومتزايدة في تركيا والمعارضة التركية تكتسب القوة، ما يفرض ضغوطا على الحكومة لمعالجة أزمة اللاجئين، حيث تؤثر السياسة الداخلية بشكل كبير على مشاركة تركيا مع دمشق؛ إذ تهدف الحكومة إلى تخفيف السخط العام وتعزيز موقفها السياسي.
وعلاوة على ذلك أجرت روسيا حملة دعائية ناجحة تستهدف الجمهور التركي وصناع القرار، وتشكيل التصورات، والتأثير على قرارات السياسة. وقد أكدت هذه الحملة بشكل أكبر على الفوائد المفترضة للتحدث مع دمشق. ولم ترَ تركيا خياراً سياسياً واقعياً للتعاون مع الولايات المتحدة في سوريا ومواصلة المحادثات مع دمشق.
وأدت التكهنات حول الانسحاب الأميركي المحتمل من سوريا، بسبب الانتخابات الأميركية المقبلة في نوفمبر والزخم الجديد في العلاقات التركية – الأميركية، إلى أمل أنقرة في تبني نهج مشترك مع واشنطن. ومع ذلك لا يزال رفض الولايات المتحدة التخلي عن وحدات حماية الشعب يشكل العائق الرئيسي أمام التوصل إلى أي اتفاق.
ولأن تركيا لا تستطيع تحقيق أهدافها في ظل معارضة روسيا والولايات المتحدة، ولم تقدم واشنطن إلى أنقرة بديلاً قابلاً للتطبيق بعد، فإن تركيا على استعداد للنظر في الخيار الذي اقترحته روسيا.
وقد أقر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالحاجة إلى توفر إستراتيجية للخروج من سوريا، وهي حقيقة معترف بها لدى الطيف السياسي التركي. وتتعلق القضايا الرئيسية بظروف سوريا وطبيعة الحكم هناك. وأكد أردوغان على الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد في سوريا من شأنه أن يضمن العودة الآمنة للاجئين ويبدد المخاوف الأمنية التركية.
تعرضت جهود روسيا في الضغط على تركيا بهدف انسحابها العسكري من سوريا لنكسة كبيرة في عام 2020، عندما هزمت القوات المسلحة التركية قوات النظام بشكل فعال بعد الخسارة المؤسفة لأربعة وثلاثين جنديًا تركيًا. وكشف هذا الحدث عن حدود قوة روسيا واستلزم إعادة تقييم إستراتيجيتها تجاه تركيا والأزمة السورية الأوسع.
وبينما ركزت روسيا على غزو أوكرانيا، كانت إستراتيجيتها في سوريا تهدف إلى منع الوضع الذي يؤدي فيه الأمر الواقع من قبل جهة أخرى إلى تقليص نفوذها. وتسعى روسيا سعيا حثيثا إلى تنفيذ خطة لتأمين وجودها المستمر وسيطرتها في سوريا، مع منع القوى الغربية أو حلفائها الإقليميين من ترسيخ موقف قوي في دمشق، إذ أن هذه المناورة الإستراتيجية ضرورية لموسكو للحفاظ على نفوذها الجيوسياسي في الشرق الأوسط.
وتظل تركيا العقبة الأساسية أمام تحقيق نصر روسي حاسم في سوريا. وتدرك موسكو أنه للتغلب على هذه العقبة يجب عليها إشراك أنقرة بشكل نشط وبطريقة تتوافق مع مصالح تركيا، والتي لا تتوافق إلا في بعض الأحيان مع مصالح الدول الغربية.
◙ في الوقت الذي تشير فيه التطورات إلى ذوبان الجليد بين الجانبين تظل المطالب والتنازلات المطلوبة منهما أكثر تعقيدا
وتعتقد روسيا أن تركيا تسعى إلى تحقيق أجندة مستقلة في سوريا، وهو ما قد ينحرف عن أهداف الدول الغربية. ويمثل هذا الاستقلال تحدياً وفرصة للدبلوماسية الروسية. وتشعر روسيا بقلق بالغ إزاء احتمال التوصل إلى اتفاق تركي – أميركي بشأن سوريا، وخاصة بالنظر إلى الانسحاب المحتمل للقوات الأميركية من المنطقة في المستقبل.
وقد يؤدي هذا الاتفاق إلى إضعاف المصالح الروسية، ما يدفع موسكو إلى التأثير على موقف تركيا بنشاط. وفي أسوأ السيناريوهات بالنسبة إلى روسيا قد تعمل المفاوضات بين أنقرة ودمشق كتكتيك للمماطلة وكسب الوقت حتى يستقر الوضع في أوكرانيا أو تنسحب الولايات المتحدة من سوريا.
واستغلت روسيا بمهارة مخاوف تركيا من الهجرة لصالحها. وفي البداية استخدمت تكتيك التهديد بمهاجمة النازحين داخلياً على طول الحدود بين تركيا وسوريا للضغط على أنقرة.
وفي الوقت الحاضر تنفذ روسيا إستراتيجية دعائية شاملة تهدف إلى إقناع الشعب التركي بأن الدخول في مفاوضات مع دمشق هو الحل النهائي لأزمة اللاجئين في تركيا. وتهدف هذه الحملة النفسية والإعلامية إلى تغيير الرأي العام وتمكين المحادثات الدبلوماسية.
وتستعين موسكو ببروتوكول أضنة لعام 1998، الذي من شأنه أن يضفي الشرعية الرسمية على الوجود العسكري التركي في سوريا، لتعزيز التوافق بين أنقرة ودمشق. ومع ذلك، فإن هذا الاقتراح يتطلب دراسة شاملة وتعزيز البروتوكول المحتمل لجعله أكثر جاذبية لأنقرة.
ويهدف اقتراح روسيا بشأن وجود عسكري رسمي ومعترف به عالميا إلى منح تركيا شعورا بالأمان والمصداقية في أفعالها، وبالتالي خلق جو موات للمحادثات الدبلوماسية.
تشكل المصالحة مع تركيا، الخصم الإقليمي الرئيسي الأخير، أهمية بالغة لاستكمال رواية سوريا عن النصر. والرأي السائد في دمشق هو أن إصلاح العلاقات مع أنقرة من شأنه أن يوجه ضربة قوية للمعارضة، ما يعوق بشكل أكبر تنفيذ قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254.
ومن خلال المصالحة مع تركيا يمكن لسوريا أن تقوض إستراتيجيا موقف المعارضة في المفاوضات وتعزز موقفها. وهذا من شأنه أن يساعد سوريا على تعزيز سيطرتها على المشهد السياسي المستقبلي.
وكانت سوريا تفضل التفاوض مع حكومة تركية غير تلك التي يقودها الرئيس أردوغان. فقد أظهرت أحزاب المعارضة في تركيا حرصا أكبر على التعامل مع الرئيس السوري بشار الأسد وهي أقل التزاما بفرض شروط مرهقة للمصالحة على دمشق. ويتعين على سوريا أن تواجه الواقع الحالي لحكومة أردوغان، التي تحتفظ بالسلطة على الرغم من موقفها المثير للجدال.
والرأي العام في دمشق هو أن المصالحة المحتملة مع أنقرة يجب أن تؤدي إلى قدر محدود فقط من التفاعل الدبلوماسي، ما يسمح لسوريا بالحفاظ على بعض النفوذ للمفاوضات المستقبلية المحتملة مع حكومة تركية أكثر ملاءمة.
ومن خلال تبني هذا النهج البراغماتي تستطيع دمشق أن تبحر بفاعلية في الديناميكيات المعقدة للسياسة التركية مع الحفاظ على المرونة في خياراتها الإستراتيجية طويلة الأجل. وعلاوة على ذلك من شأن إعادة تأسيس العلاقات الدبلوماسية مع تركيا أن تؤثر بشكل كبير على الفصائل المسلحة المعارضة في شمال سوريا.
وإذا غيرت أنقرة موقفها فإن هذه الجماعات -التي يعتمد العديد منها على الدعم التركي- سوف تشهد تراجعا كبيرا في نفوذها. ومن المتوقع أن تنخفض المعارضة من جانب هذه الفصائل بشكل كبير من خلال ضمان تحميل تركيا مسؤولية أفعالها.
استعادة السيطرة الجزئية أو الكاملة على حدود تركيا من شأنها أن توفر لسوريا القدرة على الوصول إلى طرق التجارة الدولية
وبالإضافة إلى ذلك قد يؤدي هذا التطبيع إلى حل الجمود في المفاوضات مع قوات سوريا الديمقراطية. ومن الممكن أيضا أن تؤدي عملية المصالحة مع تركيا إما إلى دفع المجتمعات الكردية إلى تقديم المزيد من التنازلات أو إلى تشكيل جبهة موحدة مناهضة لوحدات حماية الشعب من قبل المجتمعات العربية المعادية، بدعم من أنقرة.
وتحمل المصالحة مع أنقرة حوافز اقتصادية ومالية كبيرة، إذ أن استعادة السيطرة الجزئية أو الكاملة على حدود تركيا من شأنها أن توفر لسوريا القدرة على الوصول إلى طرق التجارة الدولية، وهو ما سيكون حاسماً للتعافي الاقتصادي. ويحتاج الاقتصاد السوري، الذي تضرر بشدة بسبب الصراع المطول والقيود المالية، بشكل عاجل إلى فرص للتوسع والتقدم.
وعلى الرغم من اهتمام تركيا بمشاريع الربط الإقليمية الأخرى، فإن ربط سوريا يظل أكثر جدوى وفاعلية من حيث الكلفة. وتسلط الميزة الإستراتيجية لإعادة تأسيس الروابط التجارية مع تركيا الضوء على الضرورة الاقتصادية التي تدفع سوريا إلى مواصلة التطبيع.
ومع ذلك فإن دمشق لديها مخاوف كبيرة بشأن شرعية الوجود العسكري التركي في سوريا. وقد تفقد دمشق نفوذها الحيوي في المناقشات المستقبلية مع أنقرة من خلال الاعتراف بهذا الوجود أو إضفاء الشرعية عليه مؤقتًا. ونتيجة لهذا من المتوقع أن تصر سوريا، بدعم من طهران، باستمرار على الانسحاب الكامل للقوات المسلحة التركية من شمال سوريا كشرط أساسي للمصالحة.
وفي حين تتنقل سوريا وتركيا عبر هذه المرحلة الجديدة من الدبلوماسية، يظل الطريق إلى المصالحة محفوفًا بعدم اليقين والمفاوضات الفنية المعقدة. وفي الوقت الذي تشير فيه التطورات الأخيرة إلى ذوبان الجليد بين الجانبين، فإن المطالب والتنازلات المطلوبة منهما أكثر تعقيدًا.
وقد تقدم الصورة الفوتوغرافية بين الزعيمين انتصارًا رمزيًا، لكنها تمثل أهم معلم في مستقبل مليء بالمناقشات الشاقة والاتفاقيات المعقدة. والاختبار الحقيقي يكمن في المستقبل حيث تسعى الدولتان إلى معالجة القضايا الهامة والملحة، وموازنة المصالح الإقليمية، وشق طريق مستدام إلى الأمام وسط الشكوك الدائمة.