العمل الخيري دبلوماسية مساعدات تخترق المجتمعات

بعض الأنظمة تستعين بمؤسسات خيرية لبسط مخططاتها تحت غطاء المساعدات وتقديم الإغاثة بعد أن تجاوز العمل الخيري حدود المحلية ليصل إلى العالمية.
السبت 2020/09/05
عمل يتحسس طريقه نحو الفاعلية

يمثل العمل الخيري سلوكا حضاريا لا يمكنه النمو سوى في المجتمعات التي تنعم بمستويات متقدمة من الثقافة والوعي والمسؤولية، كما أنه يلعب دورا مهمّا وإيجابيا في تطوير المجتمعات وتنميتها، فهل ينطبق الأمر على المجتمعات العربية التي استغل فيها العمل الخيري لتنفيذ أجندات معينة؟

لندن- يكتسب “اليوم الدولي للعمل الخيري” الذي يصادف 5 سبتمبر من كل عام، هذا العام أهمية استثنائية جراء تزامنه مع أزمة انتشار فايروس كورونا.

ولئن وجدت دول أوروبية في “اقتصاد السوق الاجتماعي” ملاذها لصدّ فجائية الوباء، والتخفيف من حدّة الانعكاسات الاجتماعية المتسارعة، التي أعقبها الحجر الصحّي الشامل، فإنّ الدول العربية، في معظمها، بمحدوديّة إمكانياتها وبحكم ما تعانيه من ضغوط الاختلالات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، لم تجد من سبيل غير خفض جناحها لجمعيات المجتمع المدني وقواه الحيّة الناشئة.

مجتمع داخل مجتمع

خيط رفيع يفصل استغلال العمل الخيري في التنمية عن بناء مجتمع داخل آخر
خيط رفيع يفصل استغلال العمل الخيري في التنمية عن بناء مجتمع داخل آخر

يتذكر نور (35 سنة) وهو أستاذ تعليم ثانوي في معهد في مدينة سوسة التونسية (وسط شرق)، حين كان يفرض عليه ورفاقه في المدرسة التبرع لفائدة صندوق 26/ 26 تحت شعار رنان وهو “تنمية مناطق الظل” التي لم يعرف إلى الآن ذلك الذكي الذي فرق التونسيين بين مناطق نور وأخرى ظل.

وأضاف “عرفت بعد الثورة، كما الجميع في تونس، أن الصندوق كان طريقة للاستغلال وسلب الأموال لقد ذهب المال للفاسدين والمتنفذين لم يصل شيء إلى مناطق الظل، أتذكر أن أبي كان يخبرنا باقتطاع قيمة يوم عمل في القطاع الحكومي سنويا لأجل الصندوق”.

ومازال العمل الخيري والإغاثي في معظم البلدان العربية يتحسس طريقه نحو الفاعلية والجدوى في المشهد المجتمعي العام سواء في التدخل العادي أو عند الأزمات الكبرى، لكن الملاحظ أن هذا العمل يعاني عدة صعوبات رغم أهميته الكبرى وأولى هذه الصعاب النظرة السيئة التي يحملها الوعي الشعبي تجاه العمل الخيري، وذلك لانعدام ثقته في الجمعيات الخيرية حيث يحرص العديد من المواطنين على التبرع للمحتاجين بصفة مباشرة.

وقبل حوالي عقد من الزمن، كشفت “فوربس – الشرق الأوسط” عن قائمة “الجمعيات الخيرية الأكثر شفافية في العالم العربي”.

وتضمنت القائمة 54 جمعية خيرية فقط، من أصل 337 جمعية سمحت بالكشف عن بياناتها المالية، التي يقوم على أساسها التصنيف الذي شمل الجمعيات الخيرية والعاملة في مجال مكافحة الجوع والفقر وتقديم الرعاية الصحية ودعم ضحايا الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية والجمعيات (غير الربحية) والمعتمدة من وزارات الرعاية الاجتماعية في مختلف الدول العربية، وذلك لتحقيق هدف تحري سلامة وشرعية تعاملات تلك الجمعيات الخيرية، وتوافقها مع القوانين النافذة في بلدانها.

“قطر الخيرية” تعمل في أكثر من سبعين دولة، وتحظى بالشراكة مع عدد من وكالات الأمم المتحدة، وتنسق مع وزارة الخارجية في قطر

وشمل المسح 18 دولة عربية؛ 9 دول منها كانت حاضرة في القائمة (السعودية، الأردن، الإمارات، الكويت، البحرين، عمان، لبنان، تونس وفلسطين). فيما غابت 5 دول (مصر، المغرب، قطر، الجزائر والسودان) بسبب امتناع الجهات الرسمية فيها عن تزويدنا بقائمة وافية للجمعيات الخيرية التي انطلق على أساسها البحث. كما تم استثناء 4 دول هي (ليبيا، سوريا، اليمن والعراق) بسبب الأوضاع السياسية والأمنية المضطربة التي تمرُّ بها، ما جعل التواصل مع جهات رسمية فيها صعبا.

ولم يتغير الحال كثيرا منذ ذلك الزمن، إذ لا تزال معظم الجمعيات ترفض الكشف عن بياناتها ما يطرح أسئلة كثيرة حول مصادر تمويلها وأهدافها.

ومن جانب آخر، ساهم الارتجال في عمل الجمعيات الخيرية بشكل واضح في عرقلة عملها والحد من نجاعته وهذا الأمر في حد ذاته يعود لعدة أسباب أهمها كثرة هذه الجمعيات مما جعل أموال المتبرعين تتشتت وتصبح دون جدوى، إضافة إلى ضعف التكوين الذي يعاني منه الأفراد الممارسون للعمل الخيري حيث يعتقد أغلبهم أن عملية جمع الأموال من الناس عملية سهلة لكن الحقيقة عكس ذلك تماما حيث أن عملية إقناع الناس بالتبرع صعبة للغاية.

ويقول خبراء إن “من أهم تحديات العمل الخيري هو الانسجام بين هذه العناصر الثلاثة: المال والوقت والخبرة. فنجد أن أهم ما تركز عليه المؤسسات، أحيانا، هو توفير المال لمشاريعها. وتجد التفريط في مسألة الإنفاق من الوقت وغياب مشاركة الخبرة. والحقيقة أن وجود قوة وتكامل سيعطي قوة للعنصر الآخر، وضعف أحدها يعود بالنقص على الجوانب الأخرى، فمثلا غياب الخبرة يعني ضعف الاستراتيجية؛ وبالتالي ضعف ثقة المتبرعين بتطلعات المؤسسة، وعدم ثقتهم بمستقبلها. وعدم وجود المتبرعين بالوقت يجعل المال والخبرة غير ذات قيمة”.

وتلعب الخدمات التطوعية الخيرية دورا كبيرا في نهضة الكثير من الحضارات والمجتمعات ونشر الأفكار عبر العصور بصفتها عملا خاليا من الربح العائد وليست مهنة، بل هي عمل يقوم به الأفراد لصالح المجتمع ككل، وتأخذ أشكالا متعددة بدءا من الأعراف التقليدية للمساعدة الذاتية إلى التجاوب الاجتماعي في أوقات الشدة ومجهودات الإغاثة إلى حل النزاعات وتخفيف آثار الفقر.

لا تزال معظم الجمعيات ترفض الكشف عن بياناتها ما يطرح أسئلة كثيرة حول مصادر تمويلها وأهدافها
لا تزال معظم الجمعيات ترفض الكشف عن بياناتها ما يطرح أسئلة كثيرة حول مصادر تمويلها وأهدافها

إن الكثير من الأعمال السياسية والوساطات والمكاسب الكبرى للأمم القوية تتم من خلال العمل التطوعي، وبأيدي المؤسسات غير الحكومية، فلا تتدخل الحكومات في صياغته، ولكنه ينتهي بخير الشعب والحكومة.

وحيث توجد المؤسسات الخيرية والاجتماعية فإن السياسة تموت. فقد لعب المتطوعون دورا هاما كما وكيفا في رعاية وتطوير الدول الصناعية منها والنامية من خلال البرامج القومية، في مجالات المساعدات الإنسانية والتعاون التقني وتعزيز حقوق الإنسان والديمقراطية كما يشكل التطوع أيضا أساسا لكثير من نشاطات المنظمات غير الحكومية ومنها الروابط الحرفية والاتحادية والمنظمات المدنية، هذا إضافة إلى الكثير من المشاريع في مجالات محو الأمية والتطعيم وحماية البيئة والتي تعتمد بصورة مباشرة على المجهودات التطوعية.

وبذلك يرتبط مفهوم العمل الخيري والتطوعي بالتنمية الشاملة، من خلال الكثير من تلك الأعمال والبرامج التي تستهدف الإنسان وترقى به ابتداء من الفرد ثم الأسرة ومن ثم تمتد إلى المجتمع تلك الحلقات الثلاث المترابطة بمجموعها ومفرداتها.

ويؤكد خبراء أن حقيقة العمل الخيري وخططه يجب أن ترتبط في ما يمكن أن تحدثه من تأثيرات وتغيرات في المجتمع باتجاه التنمية الشاملة، فهو ليس جهودا تبذل وحسب لإنقاذ مصاب أو علاج مريض أو أموال تنفق لسد رمق محتاج بل إن خطة العمل الخيري يجب أن تكون في اتجاه التنمية وفي اتجاه بناء المجتمع.

سيطرة الأجندات

الكتاب يكشف الاستراتيجية القطرية التي يتم من خلالها شحن المسلم بعدد من الأفكار والسلوكيات ضمن إرادة عولمة إسلامية
الكتاب يكشف الاستراتيجية القطرية التي يتم من خلالها شحن المسلم بعدد من الأفكار والسلوكيات ضمن إرادة عولمة إسلامية

تحولت الجمعيات الخيرية في تونس خلال السنوات التسع الأخيرة إلى أذرع اجتماعية متنفذة ومدخل آمن للاستقطاب وخزان انتخابي بامتياز. ويقول الناشط السياسي عبد اللطيف الحناشي إن العمل الخيري تعتمده بعض الاطراف لتحقيق غايات آنية تتمثل في كسب التعاطف مع جهات سياسية معينة.

ويخرج العمل الخيري في عدة بلدان من حدود المحلية إلى العالمية، إذ تستعين بعض الأنظمة بمؤسسات خيرية، بها لبسط مخططاتها، تحت غطاء العمل الخيرى وتقديم الإغاثة في العالم.

ويقول العميد السابق بالجيش التونسي مختار بن نصر أن الجمعيات الخيرية ذات الهدف السامي في ظاهرها هي التي تقدم الامدادات للإرهاب وهي المصادر الرئيسية لتمويله. ويطفو بين الحين والآخر ملف تمويل الجمعيات الخيرية وسط اتهامات لجمعيات مرتبطة بأطراف سياسية ذات توجه اسلامي منها بالخصوص حركة النهضة بتلقي تمويلات مشبوهة من مؤسسة قطر الخيرية (Qatar Charity).

 وعلى مدار سنوات أصبحت المؤسسات الخيرية القطرية ذراعا مستترة للنظام تمتد إلى حيث يشاء ليعبث باستقرار البلدان العربية وحتى الأوروبية، وينشر الخراب
والدمار.

وضمن كتاب “أوراق قطرية” نشر تحقيق قام به الصحافيان الفرنسيان كريستيان شينو وجورج مالبرونو حول التمويلات التي قامت بها مؤسسات قطرية: من أين تأتي أموال “قطر الخيرية”. ووجدا أن المصدر الأول هو الزكاة والتبرعات العامة والخاصة. وسجلا مثلا لسنة 2016 فقط، التبرعات التالية: الديوان الأميري، والشيخ جاسم بن سعود بن عبدالرحمان آل ثاني، والشيخ خالد بن حمد بن عبدالله آل ثاني، والشيخ سعود جاسم أحمد آل ثاني، والشيخ محمد بن حمد آل ثاني، وشركة سخاء للخدمات، ووزارة الخارجية، والشيخ ناصر بن حمد بن خالد آل ثاني، والشركة القطرية الوطنية للتوريد والتصدير، والشيخة نهلاء أحمد محمد آل ثاني، وشركة وقود قطر، والمكتب الخاص للأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة، وصندوق التنمية القطري.

ويعتبر الكاتبان أن وجود ديوان الأمير والمكتب الخاص للأمير الوالد في قائمة المتبرعين يفند حجة القائلين إن مصادر تمويل الجمعيات الإسلامية عبر العالم تأتي فقط من تبرعات خاصة، لاسيما وأن عددا من شيوخ آل ثاني يعتبرون أيضا من كبار المتبرعين، فضلا عن وزارة الخارجية أو صندوق قطر للتنمية. وبالتالي، فهما لا يصدقان من يقول إن “قطر الخيرية” هي منظمة خيرية غير حكومية، بسبب “التشابك بين قمة الدولة والمنظمة”.

الكثير من الأعمال السياسية والوساطات والمكاسب الكبرى للأمم القوية تتم من خلال العمل التطوعي، وبأيدي المؤسسات غير الحكومية

ويقول الكاتبان إن “قطر الخيرية” تعمل في أكثر من سبعين دولة، وتحظى بالشراكة مع عدد من وكالات الأمم المتحدة، وتنسق مع وزارة الخارجية في قطر، ويستشهدان على ذلك بوثائق تثبت أن وزير الخارجية نفسه طلب من “قطر الخيرية” أن تمده بتفاصيل التمويلات التي تقوم بها في الخارج وعدد المشاريع وأنواعها في 40 بلدا أفريقيا.

ويلاحظ الكتاب أن مهمة المراكز الإسلامية التي تمولها “قطر الخيرية”، كما شرحها أحد أعضاء الإخوان المسلمين سابقا، تتطابق تماما مع “نظرية المواضع” Theorie des spots (الموضع هو المسجد – المركز الإسلامي) التي طورها في التسعينات عبدالله بن منصور، الأمين العام السابق لاتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا. ووفقا لهذه النظرية، “ينبغي أن نتولى رعاية المسلم عبر جميع مراحل حياته، في ممارساته الدينية، من المهد إلى اللحد”. إن نظرية المواضع هذه “تنخرط في إطار استراتيجية تأثير، يتم من خلالها شحن المسلم بعدد من الأفكار والسلوكيات، كل هذا ضمن إرادة عولمة إسلامية”.

ويؤكد الخبير محمد لويزي أن المسألة تتعلق بـ”إنشاء مجتمع داخل المجتمع مواز له”. ويرى المؤلفان أن هذا المشروع القطري يستوحي مباشرة نظرية حسن البنا، مؤسس جماعة “الإخوان المسلمين”، من خلال تحويل الإسلام إلى أداة شاملة تحدد توجّه كل شيء في المجتمع والدولة، لاسيما التربية والسياسة. فهما يكتبان “اليوم إن أيديولوجية الإخوان المسلمين هي جزء لا يتجزأ من الحمض النووي DNA لقطر”.

وكان اعتقال الصحافي الفلسطيني يوسف حسان من قبل سرايا القدس، الذراع المسلحة لحركة الجهاد الإسلامي، في قطاع غزة أثار غضب ناشطين كثر بسبب تقرير الذي أغضب المسؤولين في غزة، تضمن عدة وقائع فساد وتلاعب بالمساعدات الإنسانية والابتزاز الجنسي لطالبات المعونة من قبل أحد العاملين في المجال الخيري، من دون ذكر اسمه.

20