العمل الإنساني حاضن للمتعبين في العالم العربي

في دول عديدة من العالم العربي التي عرفت أزمات إنسانية تعاني المجتمعات من الظروف الصعبة في الحياة، فهناك من يسكن في أوضاع سيئة بالمخيمات، وهناك من يدرس في مدارس غير مؤهلة للتدريس، وهناك أطفال مرضى لكن حالة عائلاتهم المادية تحول دون أن يواصلوا مراحل علاجهم، أمام كل هذه الحالات هناك العديد من المبادرات التطوعية التي تحاول حسب إمكانيتها مساعدة من يحتاج إلى ذلك دون انتظار أيّ مقابل، ولكن بدافع واجب إنساني ملّه عليهم حب الحياة والحس المجتمعي المشترك، ومبادرة “صناع الأمل” التي تأسست في دبي تسعى إلى الاعتراف بجميل هؤلاء بتكريمهم والإشادة بجهودهم.
دبي- منذ إطلاقها في مطلع مارس 2019، نجحت مبادرة “صناع الأمل” في اجتذاب عدد كبير من مشاركات شباب وشابات من مختلف أنحاء العالم العربي يتطلعون إلى المساهمة في نشر الأمل وصنع تغيير إيجابي.
مبادرة “صناع الأمل” تأسست في دبي وتهدف إلى تكريم البرامج والمشاريع والمبادرات الإنسانية والمجتمعية التي يسعى أصحابها من خلالها إلى مساعدة الناس دون مقابل، ونشر الأمل وترسيخ قيم الخير والعطاء، وتعزيز النزعة الإيجابية وروح التفاؤل، وتحسين نوعية الحياة في مجتمعاتهم، وصناعة الفرح في حياة الناس.
حتى اليوم، تلقت مبادرة “صناع الأمل” الآلاف من قصص الأمل من أفراد ومجموعات، لديهم مشاريع ومبادرات، يسعون من خلالها إلى مساعدة الناس وتحسين نوعية الحياة أو المساهمة في حل بعض التحديات التي تواجهها مجتمعاتهم. وتسعى مبادرة صناع الأمل إلى نشر قصص ملهمة من العالم العربي لأشخاص كانوا مصدر إلهام للآخرين الذين يتطلعون إلى تغيير مجتمعاتهم نحو الأفضل.
شباب يحبون العراق
“بصمة أمل”، هي منظمة شبابية تطوعية مستقلة أسسها علي عبدالرحمن محمد مع متطوعات ومتطوعين أرادوا تقديم الإضافة إلى المجتمع العراقي بكل أطيافه، وهي غير تابعة لأي جهة سياسية أو حزبية وإنما منظمة تموّل بشكل ذاتي من قبل أعضائها من خلال اشتراكاتهم وتبرعاتهم.
كيف لمهد حضارات ما بين النهرين أن يستعيد مجده من جديد؟ وكيف لمجتمع العراق الغني بتنوعه وتراثه وثقافته وتاريخه أن يواصل مساهمته في مسيرة التقدم الإنساني؟ وكيف للأجيال العراقية الجديدة والصاعدة أن تعزف لحن السعادة والأمل والإيجابية والفرح بعد سنوات من انعدام الاستقرار؟
هي أسئلة طرحها رئيس منظمة بصمات علي عبدالرحمن محمد على نفسه مرارا، لا ليبرر لذاته اتخاذ قرار الهجرة والخلاص الفردي بالخروج إلى جهات العالم الأربع، بل لاستكشاف أفضل السبل التي يمكنه من خلالها أن يوظف وقته وجهده وخبراته ومهاراته وعلاقاته الإنسانية لمساعدة إخوته من مختلف الانتماءات والطوائف في وطنه العراق.
وبعد تأمل وتفكير، قرر الشاب علي عبدالرحمن من بغداد في 15 يناير 2015 تأسيس مجموعة تطوعية تحمل اسم “بصمة أمل”، هدفها الرئيسي في ذلك الحين استقبال وخدمة المواطنين النازحين من مختلف المحافظات طلبا للأمان بعيدا عن مناطق النزاع المسلح.
وواصلت المجموعة تقديم الدعم المادي واللوجستي لسكان المخيمات المؤقتة الخاصة بالنازحين حتى عام 2016، حيث قرر أفرادها توسيع دائرة أنشطتهم والارتقاء بمهامهم ليشملا خدمة المجتمع وتمكين مختلف فئاته لتصبح منظمة غير حكومية تحت اسم “منظمة بصمة أمل للشباب والتنمية البشرية”.
وأصبحت المنظمة تعكف على رعاية من لا مأوى لهم، وخاصة من كبار السن، وتأهيلهم بالتعاون مع المؤسسات والهيئات الحكومية والأهلية المعنية بهذا الشأن، لما فيه حفظ الكرامة الإنسانية لهؤلاء والمساهمة في إعادة إدماجهم بشكل إيجابي في المجتمع.
كما بدأت “بصمة أمل” إطلاق مبادرات اجتماعية وإنسانية وتوعوية تستهدف الشباب بشكل أساسي، لتعزيز قيم التسامح والتعايش والتعاطف بين مختلف أطياف المجتمع بانتماءاته العرقية والعقائدية والثقافية المتنوعة. وبادر المتطوعون من الشابات والشباب في المنظمة بالمساعدة في ترميم دور العبادة ترسيخا لقيم التنوع والتلاقي في المجتمع.
ولأن التعليم والمعرفة والفكر والتحصيل العلمي هي خطوط الدفاع الأولى أمام موجات الجهل والفقر والاستتباع والاستقطاب والانغلاق والتفرقة، شارك المتطوعون والمتطوعات في جهود تأهيل 516 مدرسة عراقية، لتوفير بيئة تعليمية حيوية للطلاب، تضج بالألوان والفرح والأمل، وتشجع التلاميذ على الإقبال على المدرسة والتحصيل العلمي، وتحارب التسرب من المدارس الذي يهدد مستقبل الوطن اقتصاديا واجتماعيا ويطيح بفرص الآلاف من الأطفال واليافعين والشباب الذين يستحقون الحصول على التعليم كحق إنساني أساسي وكمكون عضوي لتحقيق التنمية.
وقبل ذلك وضعت المنظمة بصمتها على متحف الطفل في بغداد من خلال صيانة واجهة المتحف والحدائق المحيطة به، وهو متحف مصغر ذو هدف تربوي وتعليمي، يوصل إلى ذهن الطفل فكرة كيف عاش الإنسان القديم وكيف تعلم واخترع الكتابة وكيف بنى قرية.
ونفض شباب المنظمة الكآبة عن جدران بغداد عبر رسومات ولوحات تعبيرية وإرشادية، وقال علي عبدالرحمن، “إن المنظمة تعتمد على تبرعات الأعضاء ولا تتلقى تبرعات مالية من أيّ جهة، وقد قاموا منذ انطلاق عملهم بتزيين مئات الجدران بالعاصمة والرسم عليها، محاولين تقديم رسائل إلى المجتمع بشكل عام والشباب منهم خصوصا، بضرورة التحرك للإبداع والإنجاز على أرض الواقع وترك النزعة السلبية والإحباط اللذين يعانون منه”.
وقال أمجد محسن أحد الرسامين في المنظمة، “نزين الجدران بعد أن كانت تكسوها الأوساخ واللافتات وقد رسمنا عليها لوحات جميلة تسر الناظرين، وجميع ما نرسمه يكون بموافقة الجميع من حيث كونه ملائما أم لا”.
وقال أسامة صادق وهو متطوع من كلية الفنون الجميلة ، “كان انضمامي إلى المنظمة قبل سنتين وأنا من منطقة الدورة وعملي تطوعي، وما أريد إيصاله هو أننا نحن الشباب أمل المستقبل، هدفنا واحد هو تجميل بغداد وإظهارها للجميع بشكل يليق بمكانتها إضافة إلى إسعاد الآخرين”.
أما نسرين خضير، طالبة في كلية الآداب ببغداد، فتؤكد أنها غالبا ما تترك محاضراتها إذا ما علمت أن هنالك عملا تطوعيا عليهم القيام به، وترى أن العمل معهم يجعلها أكثر تحفيزا للبقاء في هذه البلاد وتقديم كل المستطاع!
ويأمل علي عبدالرحمن أن تستمر أعداد المتطوعين والمتطوعات في “بصمة أمل” بالنمو بعد أن أصبحوا 338 متطوعا ومتطوعة من مختلف مناطق العراق، من أجل مواصلة المشروع المشترك الذي استثمروا فيه كافة إمكاناتهم لإرساء مقومات تحقيق أهداف التنمية المستدامة، التي وضعتها الأمم المتحدة للعالم، على مستوى وطنهم العراق، من خلال توفير التعليم الجيد، والفرص الواعدة، والدعم الاجتماعي لمختلف الفئات من الطلبة والنازحين والأيتام.
بيت القصاب الرحيم
يقدم قصاب في حي السيدة زينب بالقاهرة إقامة مجانية، منذ سنوات، للأُسر التي يعالج أطفالها في مستشفى معروف لعلاج سرطان الأطفال بالعاصمة المصرية. قرر القصاب صيام عبده، مساعدة الأُسر التي تسافر للقاهرة مع أطفالها المرضى بانتظام لعلاجهم في مستشفى 57357 الذي يقدم لهم جلسات علاج كيمياوي وإشعاعي أسبوعيا. ويتيح القصاب للمرضى شقة سكنية في بيت يملكه أمام المستشفى.
يستيقظ صيام قبل خيوط الفجر الأولى، فيرتدي ثيابه، ويخرج مسرعا، ليس نحو محل بيع اللحوم الذي يعمل فيه، بل باتجاه بيت له خصصه للأطفال من مراجعي مستشفى 57357 لعلاج المصابين بالسرطان بمنطقة السيدة زينب في العاصمة المصرية القاهرة.
يدخل الشقة الكائنة في الطابق الأرضي وهو يردد أدعية لا تفارقه بالشفاء للمرضى، ويتفقد الأسرّة السبعة الموزعة في أنحائها، فيرتّب أغطيتها ووسائدها، ويمر على المطبخ ليتأكد من نظافة الأشياء وحسن ترتيبها، ثمّ يُخرِج بعض ألعاب الأطفال والكراسي المتحركة إلى الباحة أمام المنزل.
يرفع عينيه إلى اللافتة التي ثبّتها في الشارع، يتأكد أنها ثابتة في مكانها وما كتب عليها واضح للمارة؛ “يوجد سكن واستراحة يومية مجانا لأطفال مستشفى 57357″، ثم يتطلع لحظات إلى وردة سماء الصبح التي بدأت تتفتح، وينطلق إلى محله في الشارع الذي بدأت الحياة تدب فيه.
وقالت أم جنا قصتها مع العم ظاظا، “تأخرنا في أحد الأيام ولم نجد مكانا للنوم فيه، فدلنا الناس على مكان عم ظاظا، وهو إنسان طيب جدا، وقد خصص الدار دون مقابل عكس باقي الأماكن”.
وأم جنا واحدة من الكثيرين الذين استفادوا من الخدمة الإنسانية التي وفرها العم ظاظا قائلة، “كان على ابنتي الحضور لأخذ جرعة على الساعة الواحدة فجرا، وبعدها لا يمكننا البقاء في المستشفى، ولم أكن أعرف سبيلا حتى دلوني على هذا المكان”.
سنوات مرت والعم صيام عبده الجزار يمارس هذا العمل الأثير إلى قلبه. يرى فيه فسحة أمل واستراحة مسافر ظليلة تخفف عن الأطفال المصابين بالسرطان الذين يأتون من مختلف مناطق القاهرة الكبرى والمحافظات المصرية إلى المستشفى في حي المدبح لمتابعة رحلة العلاج الطويلة التي يخوضونها مع المرض.
هؤلاء الأطفال صاروا أحبته وأصدقاءه، حتى أصبحوا ينادونه بـ”العم ظاظا”، يستضيفهم مع ذويهم في الشقة المتواضعة. “ظاظا”.. هو اسم ربما يبدو في ظاهره كوميديا، فهو مرتبط في أذهان المصريين بفيلم عربي، جسد دور بطله مواطن بسيط أصبح رئيسا للجمهورية وفتح قلبه للمصريين جميعا، لكن بطل قصتنا أصبح رئيسا لجمهوريةِ الخير والعطاء، فقد فتح قلبه وبيته المتواضع للمرضى وأسرهم، من رواد مستشفى
يلتقيهم للحظات وجيزة يسرقها من يوم عمله الطويل، فتكون كافية لنسج صداقات جميلة معهم، والتخفيف من آلامهم بعد تناولهم لجرعات العلاج التي يحتاجونها أو يهدئ مخاوفهم قبل أخذ تلك الجرعات.
المنزل القديم المرتب، يخصصه صيام عبده مجانا لاستقبال الأطفال وذويهم قبل وبعد تلقيهم للجرعات، بدل أن ينتظروا في الساحات الخارجية المحيطة بالمستشفى والمكتظة بالمراجعين، لحمايتهم من التقاط أمراض معدية نظرا لضعف مناعتهم، وإراحة أجسادهم الغضة بعد تلقي الجرعات استعدادا لرحلة العودة.
وما على ذوي الأطفال الراغبين في الاستفادة من الإقامة المجانية في الشقة سوى تقديم بطاقة متابعة العلاج في المستشفى مع البطاقة الشخصية. وبدل أن يتقاضى أجرة يومية مجزية لمثل هذه الإقامة في الشقة القريبة جدا من المستشفى، يعتبر العم صيام مبادرته، التي نالت اهتماما كبيرا من الصحافة ووسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، أقل الواجب تجاه الأطفال المرضى.
وهو يتطلع إلى تخصيص شقة ثانية من دخله الشخصي لاستقبال المزيد من الأطفال وذويهم وخدمتهم مجانا في رحلتهم العلاجية في المستشفى، الذي أثنى على عمله الإنساني ودوره في رسم البسمة على وجوه الأطفال وري غراس الأمل بالشفاء والتعافي لدى ذويهم، الذين لا ينفكون يرددون أن الدنيا لا تزال بخير مع وجود أمثال العم صيام عبده ممن يكرسون جهدهم ووقتهم ومقدراتهم، مهما كانت محدودة، في خدمة من هم بحاجة إلى العون والمساندة والدعم في رحلة الحياة والتغلب على التحديات والصعاب.
اصنع أملا.. اصنع فرحا.
