العلوم الإنسانية.. أسئلة الأهمية ورهانات الجدوى

في السنوات التي ارتفعت فيها نسبة البطالة في تونس، خاصة في صفوف خريجي أصحاب الشهائد العليا، ومنهم أصحاب الاختصاصات الأدبية والإنسانية والاجتماعية، تفتقت قريحة الفاعل السياسي والتربوي على فكرة التقليص التدريجي من التوجيه نحو هذه التخصصات انطلاقا من ملاحظة أنها أكثر الشعب إنتاجا للعاطلين. الأكيد أن هذا الإجراء لم يكن الأول من نوعه ولن يكون الأخير في ما يخص التعامل مع اختصاصات الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية. اختصاصات أصبحت تضيف سنويا الآلاف من الوافدين الجدد إلى الجيوش من العاطلين في العالم العربي. صعوبة تشغيلية هذه التخصصات تضافرت مع قناعة يروجها البعض ومفادها أنه من المفروض أن نراهن على التخصصات العلمية والتقنية، أولا لأهميتها في بناء النهضة الاقتصادية والتنموية للبلاد، وثانيا لقدرتها على توفير فرص عمل لخريجيها.
يبدو هنا أن سؤال الجدوى يتقدم على سؤال الأهمية أو الدور. والرهان على التخصصات العلمية في الجامعة لا يفترض أن نقلص من التوجيه نحو التخصصات الأدبية والإنسانية، وهو ما يذهب بنا إلى أن القضية ملتبسة بين الأبعاد التعليمية والتربوية، وبين الأبعاد الاقتصادية والتنموية.
التعمق في المسألة ومحاولة تفكيك الالتباس يقتضيان طرح سؤال مركزي قوامه؛ هل أن أهمية الاختصاصات التعليمية تقاس فقط بمدى تشغيليتها؟ وهل أن دور الجامعة والتعليم عموما، يقتصر على توفير احتياجات سوق الشغل؟ وهل ثمة علاقة تلازمية بين التعليم والشغل بمعنى هل أن الاختصاص العلمي هو المدخل الوحيد إلى سوق الشغل؟
بالعودة إلى “اضطرار” بعض السياسات التربوية والاقتصادية إلى إجراء مفاضلة بين الاختصاصات العلمية والاختصاصات الإنسانية، فإن الأمر يبدو من قبيل الإجراء المتسرع الذي يهدف إلى تخفيف الألم لا مداواة المرض. المرض هو البطالة، وأسبابها ليست كامنة في التركيز على هذا التخصص أو ذاك، بل إن عواملها متشعبة ومتداخلة وبنيوية. لذلك فإن الرهان على الاختصاصات العلمية والذي انطلق منذ عقود، لم يقلص من نسب البطالة، ولم يرفع من مستوى البحث العلمي ولم يؤدّ حتى إلى تحسين مستوى الخريجين في هذه التخصصات، إلا لأنه لم يحصل في سياق استراتيجية شاملة. وثانيا لأنه كان إجراء متسرعا ترتب على مقدمة متسرعة ملخصها: العلوم الإنسانية مفرخة للعاطلين عن العمل.
القول بعدم وجود أهمية للفلسفة أو للتاريخ أو لعلم الاجتماع أو لغيرها من التخصصات، انطلاقا من تشغيليتها الضعيفة، أو انطلاقا من طرحها لقضايا ومباحث قد تبدو مفارقة للواقع، لا يعود إلى خلل في هذه التخصصات
تأصيل القضية يحتاج إلى توفير رؤى متقاطعة وزوايا نظر عديدة. زاوية نظر الأهمية تقول إن الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية لها نفس الأهمية والضرورة التي تتخذها العلوم والتقنيات. بل إن المجتمع يحتاج إلى المؤرخ وعالم الاجتماع وعالم النفس والفيلسوف ومدرس اللغات بقدر حاجته إلى الطبيب والمهندس وعالم الجيولوجيا. وتزداد أهمية العلوم الاجتماعية عند تبين وجود العديد من الظواهر الاجتماعية الجديدة التي تحتاج دراسة وبحثا وتمحيصا لفهم عواملها ونتائجها وكيفيات الوقاية من مفاعيلها.
العلوم الإنسانية والاجتماعية توفر فكرا نقديا يؤسس لفكر عقلاني أساسه الإيمان بالحرية والإقرار بحق الاختلاف يمكنه (إن تمت معاضدته بسياسات وإرادات سياسية تؤمن بأهميته) أن يجنّب المجتمع تبعات التطرف والغلو أو على الأقل يقلل من آثارها. ويجدر بنا التذكير هنا بالإحصائيات التي تقول إن أغلب المنتمين إلى الجماعات المتطرفة هم من خريجي شعب وتخصصات علمية وتقنية، وإن كان اعتماد هذه المؤشرات لا يعني الانطلاق في التعميم وسحب الوصف على كل خريجي هذه الشعب.
زاوية الأهمية تقول أيضا إن الآداب والعلوم الإنسانية تكمل العلوم الصحيحة والتقنيات ولا تتناقض معها، وتحتاج إليها في البحوث والدراسات الكمية والإحصائية. القضية ليست خصومة بين العلوم الإنسانية والعلوم والتقنيات، وليست مفاضلة بينهما. كل العلوم ضرورية للمجتمع، وكل اختصاص أو مبحث يمكن أن يفيد المجتمع ويقدم له أجوبة متخصصة على أسئلة معينة.
القول بعدم وجود أهمية للفلسفة أو للتاريخ أو لعلم الاجتماع أو لغيرها من التخصصات، انطلاقا من تشغيليتها الضعيفة، أو انطلاقا من طرحها لقضايا ومباحث قد تبدو مفارقة للواقع، لا يعود إلى خلل في هذه التخصصات بل يرجع إلى تخلف بنية التعليم العربي برمتها، وإلى الربط التلازمي الشائع القديم بين التعليم والتشغيل. قياس أثر تخصص لا يتم بما يوفره لسوق الشغل فقط، بل أيضا بالخطاب الذي ينتجه وبالثقافة التي يروجها وبالتخلف الذي يقاومه.
الثابت أن العلوم الإنسانية ضرورية بقدر أهمية العلوم الصحيحة والتقنيات، والرهان على التقليص من التوجه نحو هذه التخصصات، وإن كان يبدو مشروعا تبعا لارتفاع نسب البطالة، إلا أنه لا يعني التشكيك في أهميتها للمجتمع وللمستقبل. الحديث عن البطالة يقتضي إجراءات وسياسات تنموية واقتصادية، أما الحديث عن المفاضلة بين الاختصاصات العلمية والإنسانية فهو حديث آخر؛ أكاديمي وتربوي واستراتيجي، وهو للمفارقة من صميم مباحث العلوم الإنسانية التي تنصف كل العلوم وتقر بأهميتها، بل تطرح بدائل أعمق لمعضلات البطالة.
اقرأ أيضا:
العلوم الإنسانية تعيد بناء العقل العربي
الإنسانيات.. بطالة وهدر للمال وتعطيل للتنمية