العشق يغدو كتابا والعشاق يرحلون

الأحد 2016/06/12

“لكي أجسد خيال محبوبي، ها إني مستعدة للصعود بعكس التيار، مثل صياد عجوز يصعد نحو النبع، قافزا من صخرة إلى صخرة، ومن حجر إلى حجر، ينزلق، ينحني، يتناول في كفه قليلا من الماء يروي ظمأه ثم يواصل سيره صامتا”.

هذا ما كتبته هيلين أو إيليني كازانتزاكي في مقدمة كتابها “المنشق” الذي استلهمت عنوانه من مقولة لـ”سان جون بيرس” وجمعت فيها رسائل زوجها وأوراقه وملاحظاته.

حياة كازانتزاكي المكتظة بالإنجازات والإخفاقات والرحلات والتجارب المتناقضة التي تشكل جبلة الحياة الثرية للمبدع، عبرتها نساء كثيرات غيرها، ومن أجل وفائها للحقيقة في تأليف كتاب عن سيرته، بحثت إيليني عن رسائل زوجها لهن وأدرجتها في الكتاب لتبقى هي الزوجة المعشوقة التي رافقته من سنة 1945 عندما عين وزيرا للثقافة حتى وفاته 1957 حيث تم دفنه في جدار سور مدينة هيراكليون مسقط رأسه في جزيرة كريت وكتبوا بناء على وصيته عبارة من الموروث الهندي على شاهدة قبره ” لا آمَـلُ في شيء، لا أخشى شيئا، أنا حر”. وكان كازانتزاكي في أيامه الأخيرة يردد “يا إلهي، أرجوك، مُـدَّ في عمري عشر سنوات أُخَر لأكمل أعمالي وأفرغ نفسي فلديّ كتب كثيرة لم أكتبها بعد”، وكان يتمنى لو أن بوسعه الجلوس على قارعة الطريق ليتسول من كلِّ عابر سبيل ربع ساعة بما يكفي لإنهاء أعماله.

تعترف الكاتبة إيليني بطلة قصة حبه الفريدة بأنها أحبت هذا الرجل الفاتن الحكيم وأنها أينعت تحت ظلال شجرته المعرفية، أحبته لأنه لم يسعَ أبدا لإثبات تفوقه وترفّعه ولأنه علّمها أن لا تخجل من ضعفها.

كان نيكوس يردد أمامها وهو يعاني من سرطان الدم الذي تسبب بوفاته “عندما أموت اكتبي عني كتابا..”.

وكانت تقول له “لا لا.. لا بد من كاتب موهوب ليكتب عنك”، لكنه يقول لها بتصميم معاند “سوف تضعين عني كتابا يالينوتشكا، عليك أن تفعلي ذلك، لأن الآخرين سوف يقولون أشياء غير دقيقة عني، وأنت الوحيدة التي تعرفني جيدا”.

لكنها كانت الموهوبة الوحيدة التي كرّست سنواتها فيما بعد لنشر أعماله وفي مقدمتها كتاب مذكراته الساحر “تقرير إلى غريكو” وهو الكتاب الذي يعد -إلى جانب لغته الشعرية ورؤيويته المذهلة- وثيقة مهمة عن عصرنا وتاريخ اليونان وحضارته لما ينطوي عليه من معرفة أنثروبولوجية وفلسفية عميقة. وفي هذا الكتاب جمعت إيليني مذكراته التي كان يتابع تدوينها بين إنجازه لأعماله الكبيرة “زوربا اليوناني” و”الإخوة الأعداء” و”المسيح يصلب من جديد” و”الثعبان والزنبقة” وعمله الكبير ترجمته لأوديسة هوميروس شعرا بلغة يونانية معاصرة.

التقى كازانتزاكيس وإيليني سنة 1924 حين كان على وشك الانفصال عن زوجته الاأولى غالاتيا التي كانت كاتبة تعوزها الموهبة مما حوّلها إلى وحش مؤذ وهي ترى ازدهار نيكوس ونجاحاته حتى انفصالهما سنة 1926 وظلت إيليني صديقة روحه التي لم يتزوّجها إلا عندما عيّن وزيرا للثقافة سنة 1945 وكان قد اتفق معها على “ميثاق الأيام العشرة” التي يلتقيان فيها سنويا بينما يتواصلان بالرسائل تعويضا عن اللقاء عندما يعتكف نيكوس للكتابة.

تقول إيليني “لقد تجسدت الفلسفة أمامي في شخص نيكوس، الطيبة وعدم الحسد وامتلاك ما هو ضروري فقط وعدم الاستسلام لخدر الرفاهية والتسامح مع المسيئين.

كاتبة من العراق

15