العزلة الرقمية تنذر بفقدان الأجيال القدرة على التفاعل الإنساني

يولد الطفل وهو مهيأ بشكل تلقائي لحب الآخرين والتعاون معهم، وهذه المهارات العاطفية تعد رغم أنها غير مرئية جزءا حيويا في حياة جميع البشر، وكلما تقدم الطفل في العمر تبدأ تلك المهارات بالتطور بفعل المحادثات اليومية ومخالطة الأقران والتفاعل الفكري والعاطفي مع المحيطين به.
إلا أن المستقبل ينذر بفقدان الأجيال للمهارات العاطفية، بسبب سيطرة الأجهزة التكنولوجية على حياتهم، وبقائهم لساعات طويلة معها، وهو ما قد يجعلهم ينفصلون عن الواقع الذي يعيشون فيه، ويفقدون تدريجيا القدرة على التقمص العاطفي لمشاعر الآخرين والتجاوب معهم حسيا وفكريا.
وفي السنوات الأخيرة حدثت طفرة كبيرة في استخدام الأجهزة التي تعمل شاشاتها باللمس، ما جعل الأطفال والمراهقين وحتى البالغين يشعرون بشغف كبير تجاهها، بل ويفضلونها على الجلوس مع إنسان حي يتنفس ويتحدث معهم ويجلس قبالتهم على الطاولة. ومثل هذا الأمر يطرح سؤالا مثيرا للقلق حول مدى قدرة الأجيال القادمة على التعامل بشكل إنساني مع أنفسهم ومع الأشخاص المحيطين بهم؟
ويحذر الخبراء من احتمال أن يجعل العشق المتنامي للأجهزة قصة حب الأطفال والمراهقين للتكنولوجيا مدمرة لقدرتهم على التواجد بأفكارهم ومشاعرهم مع الآخرين، وربما تأتي على جزء مهم من مهاراتهم العاطفية، التي تلعب دورا في النجاح الأكاديمي والوظيفي، والقدرة على ربط علاقات اجتماعية ناجحة في مراحل لاحقة من العمر.
ويعتقد الخبراء أن مراعاة مشاعر الآخرين، والسلوكيات المؤيدة للتعاون، هي التي تحفز على التصرف بشكل أكثر كرما وتسامحا، وهي أيضا ما يؤدي إلى الحفاظ على مجتمع متعاون ومترابط اجتماعيا.
وأشارت كيت ليستر، رئيسة شركة “غلوبال وركبليس أناليتيكس″ المتخصصة في تحليل استراتيجيات أماكن العمل، إلى أن الذكاء العاطفي الاجتماعي يشهد تراجعا حاليا، مشددة على أن الناس في انهماك مستمر مع أجهزة الكمبيوتر بدلا من وجودهم في ساحات الملاعب.
وقد تتبع الباحثون على مدى عدة سنوات تراجعا ثابتا في الذكاء العاطفي، ففي عام 2010، توصلت إحدى الدراسات الصادرة عن جامعة ميشيغان الأميركية إلى أن طلاب الجامعة أظهروا تعاطفا أقل مع زملائهم بنسبة 40 بالمئة مما كان لدى الطلاب قبل عشرين عاما.
ولا يعني الذكاء العاطفي درجة في اختبارات الذكاء، إلا أنه مع ذلك يحدد ما الذي يريده الإنسان في الحياة، ويأتي في شكل مهارات متعددة، تدفع الأشخاص إلى أن يصبحوا مواطنين صالحين بشكل فعال.
وعرف الكاتب الأميركي دانييل جولمان الذكاء العاطفي بأنه الاستخدام الذكي للعواطف مبرزا دوره في التأثير على علاقات الإنسان المختلفة، سواء علاقته مع ذاته أو علاقاته مع الآخرين، مثل الأهل والأصدقاء وزملاء العمل.
واعتبر جولمان أن الشخص يستطيع أن يجعل عواطفه تعمل من أجله أو لصالحه باستخدامها في ترشيد سلوكه وتفكيره بطرق ووسائل تزيد فرص نجاحه، سواء كان في العمل أو في المدرسة أو الحياة بصورة عامة.
ويعد الذكاء العاطفي مهما جدا في مجالات وظيفية عديدة ما زالت محافظة على تواجدها في ظل غزو الآلات لأماكن العمل وتسريح الملايين من الموظفين حول العالم، ويبدو أن هناك حاجة ماسّة إلى المزيد من العاملين في مجال رعاية المسنين وتقديم الرعاية الصحية في ظل ازدياد الأمراض المزمنة في الكثير من الدول، وتقول منظمة الصحة العالمية إن العالم سيحتاج إلى 40 مليون موظف في القطاع الصحي بحلول عام 2030، وإننا سنعاني بحلول ذلك الوقت من نقص ما يقارب 18 مليون موظف.
المستقبل ينذر بفقدان الأجيال للمهارات العاطفية، بسبب سيطرة الأجهزة التكنولوجية على حياتهم
وفي تقييم قام به البنك الدولي عام 2016 لـ27 دراسة حول آراء أرباب العمل، اتضح أن 79 بالمئة منهم صنفوا المهارات العاطفية-الاجتماعية مثل النزاهة أو العمل بروح الفريق على أنها أهم الصفات التي يجب على الموظف الجيد أن يتمتع بها.
وترى هادلي بيمان، الخبيرة في شبكات التواصل الاجتماعي، أن الذكاء العاطفي في التفاعل مع الآخرين أهم من قدرة برنامج غوغل وإجاباته المقترحة على تحديد الأمور البديهية بطريقة ملائمة. فذكر موعد غداء، مثلا، قد يبدو أمرا غير مهم، إلا أنه يكون مهما في حياة شخص ما لأسباب لا يمكن للبرنامج أن يدركها.
وعلى الرغم من أن البعض من الخبراء مازالوا متفائلين بشأن عدم إمكانية الأجهزة الذكية منافسة البشر في قدرتهم على فهم الآخر والتواصل والتعاطف معه، إلا أن هذا التفاؤل لا يتسق مع العشرات من الدراسات التي تحذر من أن الأجيال القادمة ستصبح وكأنها تعيش في عالم تدركه ولا تشعر به، بسبب انعدام التواصل والتفاعل وجها لوجه مع الآخرين.
فالأشياء التي تصل إلى الذهن عند لقاء شخص ما، مثل لغة الجسد، وطريقة الكلام، والإشارات التي تكشف ما إذا كان ذلك الشخص منزعجا أو متوترا، أو عندما يكون شيء ما غير مفهوم في المحادثة، كلها من المزايا التي لا تستطيع وسائل التكنولوجيا توصيلها.
وكانت دراسة أميركية حديثة قد أشارت إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي وعلى رأسها فيسبوك وتويتر وغوغل بلس، يمكن أن تزيد من شعور الأشخاص بالوحدة والعزلة الاجتماعية.
وبينت الدراسة التي أجراها باحثون بكلية العلوم الطبية، بجامعة بيتسبرغ بولاية بنسيلفانيا الأميركية، ونشرت نتائجها في الدورية الأميركية للطب الوقائي، أن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لأكثر من ساعتين خلال اليوم يضاعف فرص شعور المستخدمين بالوحدة والعزلة الاجتماعية. وعن السبب في ذلك، علل الباحثون بأن استعراض المستخدمين لصور مثالية لحياة الآخرين يزيد من مشاعر الحقد والغيرة لديهم.
وأضافوا أن زيادة الوقت الذي يقضيه الأشخاص في استخدام هذه المواقع على الإنترنت تقلل من فرص التواصل الاجتماعي الفعلي، كما تزيد من الشعور بالإقصاء مثلما يحدث في حالة مشاهدة صور لأشخاص في احتفال لم يُدع إليه المستخدم.
وقالت الدكتورة إليزابيث ميلر، إحدى الباحثات المشاركات في الدراسة، “لا نعرف ما الذي يأتي أولا، استخدام وسائل التواصل الاجتماعي أم الشعور بالعزلة”.
وأضافت ميلر “من الممكن أن يكون الشعور بالعزلة قد أدى بالمستخدمين من الشباب إلى اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي، أو أن استخدامهم لهذه المواقع هو الذي أدى بهم إلى الانفصال عن الواقع″.
وقال الدكتور برايان برايماك من جامعة بيتسبرغ “هذه قضية هامة وتستدعي الدراسة في ظل الانتشار الكبير للأمراض النفسية بين المراهقين”.
وأكثر ما يثير المخاوف هو فقدان الأجيال القدرة على التمييز بين المواقف بسهولة كبيرة، فالمرء يحتاج إلى العيش ضمن المجتمع وإلى علاقات اجتماعية حقيقية، لا إلى جعل حياته اليومية سهلة فقط، ولكن كذلك إلى التعامل مع المواقف الطارئة إذا ما واجه أحدها، وإلا أدى ذلك إلى تعريض حياة الآخرين (المحيطين به) للخطر عندما لا تكون له تجارب وخبرات حياتية.
وكلما أمعنا النظر في تحذيرات الخبراء نصبح أكثر اقتناعا بأن الكثير من الاختراعات الرقمية قد أصبحت تقصي البشر عن عالمهم، في حين أنها صنعت أساسا لجعلهم يدركونه أكثر، والخوف كل الخوف من أن تصبح هذه العزلة المفروضة ذاتيا هي النمط السائد في حياة الأجيال مستقبلا.