العراق: الإبادة وليس الاستقرار هو معيار "النصر"
سارع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى إعلان “النصر” على تنظيم الدولة الإسلامية و”انتهاء دويلة الباطل الداعشية” بعد أن سيطرت القوات العراقية على المسجد التاريخي في الموصل والذي أعلنت منه داعش دولتها عام 2014. لا شك في أن تنظيم داعش تلقى ضربات مدمرة سوف تغير من هيكلته ولكنها ليست كافية لإنهائه.
قدرت الاستخبارات الأميركية عدد مقاتلي داعش عام 2015، العام الذي شهد ذروة صعود التنظيم، بنحو 80 ألف مقاتل. جعل ذلك من التنظيم ظاهرة إرهابية غير مسبوقة في التاريخ. إذ لم يتمكن تنظيم عسكري مصنف إرهابيا ولا يحظى بأي مساندة عسكرية من دولة ما من تجنيد هذا العدد من المقاتلين. فلطالما بقي تنظيم القاعدة الذي انبثق منه تنظيم داعش منظمة إرهابية معزولة تستقطب العشرات أو المئات بأفضل الأحوال.
هكذا، فليس اقتراب سقوط معاقل التنظيم في الرقة والموصل هو فقط ما يؤشر إلى الضربة المدمرة التي تلقاها، بل أيضا حقيقة الإبادة شبه التامة لعشرات الآلاف من “جنود الخلافة”. وكان وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس قبل نحو شهرين قد وصف الحملة العسكرية على داعش بأنها “حملة إبادة”. وبحسب مصادر الاستخبارات الأميركية فإن تلك “الإبادة” نجحت بصورة كبيرة. ففي نهاية عام 2016، ادعى مسؤولون أميركيون بأن التحالف الدولي استطاع أن يقتل 50 ألف مقاتل من التنظيم. وبعدها بشهرين ارتفع الرقم إلى 60 ألف. وقبل نحو شهر قدرت مصادر أميركية عدد قوات داعش بنحو ألف مقاتل في الموصل وأربعة آلاف في الرقة.
باختصار، لم يتبق سوى خمسة آلاف مقاتل من أصل نحو 80 ألفا وهو ما يؤشر إلى حجم الدمار الذي لحق بالتنظيم. مع انهيار داعش في مناطق مختلفة من العراق وسوريا خلال العام الماضي، خسر التنظيم “يوتوبيا” الدولة، وخسر معها قدرته على تجنيد المزيد من “المجاهدين” وسيطرته على حقول نفط وطرق رئيسية كانت تشكل أهم مصادر تمويله. بهذا المعنى لا يمكن الجدال بأن “الدولة الإسلامية” انتهت مع سقوط معاقلها الرئيسية، لكن التنظيم لا يزال لديه إمكانية للبقاء وربما للانتعاش في المستقبل.
الحقيقة أن الطريقة التي أديرت بها هذه الأزمة وما آلت إليه لا تحيلنا إلى نصر وطني كما يريد رئيس الوزراء العراقي تصويره. لم تكن الحرب الطويلة على تنظيم داعش حربا وطنية يمكن أن تقود إلى أمة متجانسة وإلى دولة وطنية، بل كانت ثلاث سنوات من الحرب الأهلية الطاحنة لكل من التنظيم الإرهابي ولأسس الدولة الوطنية على السواء.
يمكن للمرء أن يتلمس تلك الحرب من البيان الصادر عن رئيس الوزراء العراقي الذي أكد ملاحقة “الدواعش بين قتل وأسر حتى آخر داعشي في العراق”. يلـمح المرء في هذا الخطاب غياب أي رؤية للتأسيس لمستقبل سياسي عادل لجميع أفراد الشعب العراقي. المستقبل الذي يعرضه العبادي على العراقيين لا يتضمن بأي حال معالجة لجذور إنتاج داعش.
هنالك تاريخ من الاضطهاد السياسي والاجتماعي للبيئة السنية ما جعلها بيئة خصبة لنمو التمرد الإرهابي على الدولة العراقية التي حكمها نوري المالكي. إذ أطاح الغزو الأميركي عام 2003 بالنظام العراقي وفكك الجيش ليقع جنوده في فك البطالة ويدخل ضباطه، وجزء كبير منهم من السنة، إلى المعتقلات وأقبية التعذيب. تلك هي البيئة التي أنتجت التمرد، فيما صبغ انعدام وجود القنوات السياسية الفعالة ذلك التمرد بالإرهاب وسهل من مهمة تنظيم القاعدة.
اليوم، تأسست دولة جديدة لكنها باتت محكومة بفئة أكثر طائفية وأشد عنفا وعدوانا. يصعب هذا من مهمة استرضاء الجماعات الأهلية المتمردة بإيجاد أرضية سياسية مختلفة جذريا عن تلك القائمة حاليا. وهو ما يجعل تمردا جديدا في تلك البيئة مسألة وقت. تصريح العبادي حول الحرب المستمرة على داعش يعكس تلك الحقيقة.
لا تقتصر نتائج الحرب على داعش، على استعادة السيطرة على مناطق شاسعة وإنهاء “الدولة الإسلامية” وإبادة جنودها، بل تشمل هيمنة الميليشيات الشيعية على العراق. وهي معادلة تعيد إنتاج التمرد والحرب بصورة مستمرة وإن بصور وأشكال مختلفة.
ربما كان ذلك ما دفع ديفيد باتريوس، القائد السابق للقوات الأميركية في بغداد، وفي وقت مبكر من العام الماضي إلى اعتبار أن التهديد طويل الأمد في العراق لا يتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية، وإنما في الميليشيات الطائفية المدعومة من إيران. إن تهميش الجيش العراقي واستبداله بميليشيات طائفية بقيادة وتسليح إيرانيين لتنفذ عمليات احتلال لمناطق سنية، يشير إلى أن الأمور تسير في اتجاه أكثر تعقيدا. فأي نصر في العراق سيكون من دون معنى إن لم يترافق مع نوع من الاستقرار السياسي.
كاتب فلسطيني سوري