العدل أساس الملك.. مبدأ قابل للتحقق أم فكرة طوباوية

أجمعت الحضارات المختلفة، على مرّ التاريخ، على مركزية العدل في حياة الأمم والشعوب، على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فتحدث الفلاسفة وعلماء الاجتماع عن العدالة وقدموا لها تطبيقات متعددة في سياقات متباينة، وشاعت مقولة “العدل أساس الملك” التي يتردّد صداها مجدّدا في المجتمعات العربية التي تقف حائرة أمام جدلية العدل والقوة. وبين أنظمة تطمح للمزيد من التسلّط والهيمنة وشعوب تتطلع إلى الكثير من العدالة والمساواة دارت رحى الربيع العربي، بنسختيه السلمية والدموية. وإذا كانت أنظمة ما قبل الربيع قد فشلت في إنتاج نموذج “القوة العادلة”، فقد أخفقت تجارب ما بعده في تحقيق حلم “العدالة القوية”.
الجمعة 2016/06/03
شرطة مكافحة الشغب أو محاربة الشعب

يقول المفكر الراحل فرج فودة في كتابه الفريضة الغائبة “إن العدل لا يتحقق بصلاح الحاكم، ولا يسود بصلاح الرعية، ولا يأتي بتطبيق الشريعة. وإنما يتحقق بما يمكن أن نسميه (نظام حكم)، وأقصد به الضوابط التي تحاسب الحاكم إن أخطأ، وتمنعه إن تجاوز، وتعزله إن خرج على صالح الجماعة أو أساء لمصالحها”. ويعني ما اصطلح عليه فودة بنظام الحكم، هو تلك الصيغة المؤسسية المتّصفة بالموضوعية والحياد، والاستقلالية والشرعية وعلوية القانون، والتي نسميها “الدولة”.

فما أهمية الدولة ونظامها ومؤسساتها في إقرار وصيانة وتطبيق العدل؟ وهل المبادئ المثالية كالعدالة والإنصاف والمساواة بين الأفراد والجماعات هي فعلا الأساس الذي تقوم عليه الدول، أم تراها تقوم على أسس واقعية هي القهر وغلبة طرف للأطراف الأخرى، وامتلاك جماعة ما لأسباب القوة لفرض إرادتها على الآخرين وإخضاعهم؟

ويذهب محمود عزو الحمدو، أستاذ الفكر السياسي بجامعة الموصل، في إجابة على هذا التساؤل، الذي طرحته “العرب”، إلى أن “بناء الدولة يتم على أساس إرادي، بشري ومجتمعي، يتمثل في العقد الاجتماعي أو الدستور الذي يحظى بالمقبولية المجتمعية”، مشيرا إلى أن التغلّب أو انتصار جهة على أخرى، لا يمكن أن يقود لبناء دول مستقرة.

وتتفق معه هبة عادل العزاوي، أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد، حيث تقول إن “فكرة العدالة كغاية ﻻ يمكن أن تتحقق إلا بوسيلة هي القانون؛ ولذلك كان من أول ما فكّر فيه الإنسان أن يكون تحت ظل دولة، فقال المنظّرون والفلاسفة بالعقد اﻻجتماعي”. وتضيف العزاوي، في حديثها لـ”العرب”، “في فكرة العقد اﻻجتماعي، وما تلاها من نظريات العدالة السياسية، وضع المفكرون الوصفة الفلسفية، أما تطبيقها فيعتمد على عوامل عدة، ومصالح ورغبات وأهواء، داخلية وخارجية”.

مرجعية الدولة

تتبنى تيارات الإسلام السياسي مشروع إقامة دولة دينية تطبّق الشريعة، وتستخدم لهذا الغرض شعـــــارات دعـــــــائية ومصطلحات فضفاضة ملتبسة، فمرة تتحدث عن “دولة مدنـــــية بمرجعية إسلامية”، ومرة تشير إلى ما تسميـــه بـ”ثــــــوابت الإسلام” أو “الهـــــوية الإسلامية” للمجتمع، وهي صياغات ملغومة إقصائية في مضمونها حتى وإن بدت معتدلة أو أتاحت فرص المراوغة السياسية.

محمود عزو الحمدو: العالم العربي بحاجة إلى شرعية جديدة تفتح آفاق المفاهمة السياسية المجتمعية

ويستنكر محمود عزو الحمدو تسويق التيار الديني لفكرة “بناء الدول على أسس دينية تنفيذا لمشيئة الله بإقامة شرعه”، مشددا على أن الدول تقام على أساس المرجعية العقلانية القانونية التي ينتجها الفاعلون السياسيون والاجتماعيون. ودعا إلى الأخذ باشتراطات الحداثة السياسية التي تقوم على المواطنة والمشاركة الديمقراطية السيــــاسية والاجتمـــاعية، والشفافية والمساءلة وسيادة القانون، والفردية والمجتمع المدني، في مشروع بناء الدولة.

ويؤكد على أن الدولة هي المسؤولة عن احتكار العنف إلى جانب ترشيد الصراع الاجتماعي. ويوضّح أن إدارة الصراع السياسي يفترض أن تتم عبر “توفير الدولة لميادين لمزاولة الصراع بين الأطراف المختلفة، وضمان التنافس السياسي من خلال الأطر المدنية، فتقوم بعملية التدجين عبر تهيئتها للقنوات الرسمية وغير الرسمية؛ ليضطلع الأفراد بتأدية مهامهم السياسية”.

وتناقش هبة العزاوي إمكانية قيام الدولة العادلة، مشيرة إلى أن إمكانية تحقيق العدالة ترتبط بالفرق بين النظرية والممارسة، فمن الناحية النظرية هي حقيقة ممكنة، أما من ناحية الممارسة أو التطبيق، فهي احتمالية تعتمد على عوامل ذاتية وموضوعية. وتحذر العزاوي من القطيعة بين الفكر والممارسة التي أفرزت تأرجحا بين السلطوية والفوضوية في الظاهرة السياسية العربية.

وفي السياق ذاته، يعتقد الحمدو أن “الدول تسعى، وعبر النخب الحاكمة، إلى تحقيق مفهومها الخاص للعدالة مراعية مسألة التساوي في الفرص وليست المساواة التامة”، كما أن الدول، من وجهة نظره، “لا تقوم على أساس التوافق بل على أساس تحديد مهام وواجبات الدولة”.

الخطاب الإقصائي

ويتحفّظ الحمدو على النهج التحاصصي في إدارة الدولة على أساس التوافق المكوناتي أو التقاسم الطائفي والإثني. ويعترض على فكرة “مأسسة التوافق”، داعيا إلى احترام استقلالية المؤسسات وتحصينها ضد الانتفاع الحزبي والاستخدام الكتلوي، فيقول “التوافق أو المفاهمة السياسية آلية للعمل السياسي في إطار التنافس السياسي، ومكانها المجال السياسي والحزبي، وليس على مستوى المؤسسات الدستورية للدولة أو مؤسسات الخدمة العامة”.

تدور اليوم في مجتمعات عربية صراعات داخلية بين أطراف ممسكة بالسلطة تلوّح بالشرعية وتنادي بالاستقرار، وأخرى خارج السلطة ترفع شعارات المظلومية وتنادي بالعدالة. فما مصير هذه الشعوب، وهل ستكون المآلات تفتت المجتمعات وتفكك الدول، أم انتصار مجموعة على مجموعة وقمعها أو إبادتها لصالح بقاء الدولة، أم لعلّ الخاتمة ستكون في التفاهم والمصالحة والمحافظة على الدولة والمجتمع على أساس العدالة؟

المجتمعات العربية تقف حائرة أمام جدلية العدل والقوة

ومن وجهة نظر الحمدو “التطاحن السياسي العربي هو نتيجة طبيعية للخطاب السياسي العربي، بمستوييه الفوقي والتحتي، إذ يتّسم باستخدام الإقصائية تجاه الآخر تأسيسا على فرضية امتلاك الحقيقة المطلقة والتي تؤدي إلى نفي الآخر؛ وبالتالي نزع شرعية وجوده بغض النظر عن ماهيته وفكره وانتمائه. وهذا ما يفسّر التعالي الذي يطبع التعامل السياسي في البيئة العربية”.

ويفترض بالدولة كنظام مؤسسي أن تسعى إلى تعزيز شرعيتها باستمرار لدى جمهور من المواطنين، وذلك عبر إشباع حاجاتهم وكسب ثقتهم على المستويات الحقوقية والسياسية والأمنية والخدمية، لكن ضعف الشرعية الذي يعاني منه نموذج الدولة في العالم العربي ليس إجرائيا مرتبطا بقصور في أداء دورها تجاه أفراد المجتمع فحسب؛ وإنما جوهري يرتبط بإشكالية بنيوية تتعلق بأزمة التأسيس.

وهذا ما يبيّنه محمود الحمدو، فيفيد بأن “هشاشة نموذج الدولة العربية المعاصرة، وضعف صمودها أمام الحروب الأهلية والنزاعات المجتمعية، يعودان إلى كون عملية بناء الدولة في المنطقة العربية لم تقم في الأصل على أساس إرادة بشرية مجتمعية، وإنما هي إرادة مستوردة”.

ويشرح ذلك بقوله “لا يمكن استدعاء التجربة التاريخية الإسلامية أساسا لبناء الدولة، ولا الركون لنموذج ما بعد الاستعمار للدولة الذي تم تبنّيه أواسط القرن العشرين”.

وهذه الإشكالية أدت، في اعتقاد الحمدو، إلى “بقاء نظرة الريبة المجتمعية تجاه الدولة وضعف مشروعيتها”، الأمر الذي يدعو إلى تخليق شرعية موضوعية جديدة للدولة العربية المعاصرة، تعبّر بجلاء عن مصالح أفراد المجتمع كافة.

وتنشغل المكونات السياسية والاجتماعية والإثنية والدينية والأيديولوجية، في عدة بلدان عربية، بـ”النضال السياسي” أو “الكفاح الثوري” سعيا إلى بناء الدولة العادلة وفق تصوراتها المثالية الخاصة وسردياتها الثقافية والفئوية وأحلامها، في حين تطالبها السلطة الحاكمة أو الجهة المتغلّبة بالانصياع لها والاندماج في مشهدها السياسي والاجتماعي والقبول بشروطه وبالأمر الواقع.

وهذه النزاعات الأهلية قد تفضي إلى “تقويض الدولة من الداخل” كما يؤكد الحمدو، منتقدا نهج الانتحار اللامعقول والجموح الثوري في مواجهة البطش والإكراه السلطوي، ومعلّلا الظاهرة بالبعد الثقافي، إذ يرى أن “السلوكيات الثوروية هي محل ترحيب مجتمعي، وتوصف بأنها من أفعال البطولة الخالدة في الثقافة العربية”.

الوسط المذهبي

بعيدا عن الجدل حول مفهوم “العدل أساس الملك”، وهل هو مبدأ سياسي واقعي أم مجرد فكرة محلّقة حالمة، والسجال حول العدالة كضرورة أخلاقية وجودية للدولة، أم توازن قوى يتبلور كمحصلة للتدافع الاجتماعي؛ يبدو المشهد العربي معقدا ومتشابكا، والخنادق متداخلة والأدوار متبادلة، في ظل انقسامات مجتمعية حادة يتمترس كل جانب فيها بسرديات الماضي والحاضر لتأكيد صوابيته واحتكاره للحقيقة.الأمر الذي يطرح تساؤلات حول الطرف المسؤول عن تحقيق العدالة التي ينادي بها الجميع، هل هو السلطة أم المعارضة أم المجتمع المغلوب على أمره أم الراعي الخارجي؟ وهل الحل في صيغة سلطوية يمثلها “مستبد عادل” أم في صيغة توافقية تفتح باب التنازع الفئوي على مفهوم العدالة وحصص المتنازعين؟

النزاعات الأهلية قد تفضي إلى تقويض الدولة من الداخل

في إجابتها على هذه الإشكالية، تقول هبة العزاوي “أهم من عرّف العدالة برأيي، هو أرسطو، حين قال إنها التمسك بالوسط الذهبي، حيث ﻻ إفراط وﻻ تفريط، ومن هنا فإن الحكم الأمثل هو في السلطة الرشيدة كحل وسط بين غياب السلطة وسطوتها، وبين تسلّط الدولة وتفككها”.

ولعل ما تطرحه العزاوي حول “الحَوْكمة الصالحة” و”السياسة الرشيدة” و”الإدارة بالحكمة”، هو الخيار الأمثل بين الاستبداد والفوضى، وبين القمع والحرب الأهلية؛ لكنه يبقى خيارا نظريا في بيئة شديدة الشراسة والاضطراب مثل الشرق الأوسط.

أما الحمدو فيناقش هذه المسألة ثقافيا ومن مدخل الاجتماع السياسي، ذاهبا إلى أن “الحاجة ملحة اليوم لتحويل العقل السياسي العربي من عقل عقيدة وقبيلة وغنيمة، كما صنفه محمد عابد الجابري، إلى عقل يعتنق التعدد وثقافة الرأي والرأي الآخر بديلا عن الشمولية العقدية، وأن تتحول القبيلة إلى مجتمع مدني، وتتحول الغنيمة المتمثلة بالريع إلى اقتصاد الضرائب”.

يمثل هذا الانتقال النوعي النظري الذي اقترحه الحمدو من الأحادية إلى التنوع، ومن القبلية إلى المجتمع المدني، ومن الريعية إلى التنمية، في حال تطبيقه قاطرة للتحول السياسي العربي الذي سيأخذ شكل الإقلاع الحضاري نحو الديمقراطية والتعددية ودولة الجباية، وسيقود بحسب الأكاديمي العراقي، إلى “تمكين الدولة والمجتمع من تجاوز حالة القطيعة العقائدية والطائفية بين السكان، والاتجاه نحو المفاهمة السياسية والمجتمعية المستندة بالأساس إلى التوزيع العادل للثروة الريعية ونشاط المؤسسات المدنية”.

كاتب عراقي

12