العالم محاصر بحروب التغيير الشامل للنظام الدولي

رحل عام 2019 تاركا وراءه الكثير من التداعيات والإشكالات العالقة والمترامية في مختلف أصقاع العالم وهو ما ينذر بأن 2020 الذي بدأ بقضاء الولايات المتحدة على قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في غارة أميركية قرب مطار بغداد في العراق، سيكون على الأرجح نقطة مفصلية لا يمكن بعدها الحديث عن حوار مرتقب بين الخصمين الأميركي والإيراني كما يحيل إلى ضرورة التعمّق والبحث في مصير مجمل الخلافات الإقليمية والدولية العالقة.
واشنطن - استهل العالم مطلع 2020 بأخبار متفرقة لكنها هامة كونها تشي بأن العام الجديد سيكون أكثر سخونة مما سبقه خاصة بعدما قامت واشنطن بإرباك الصف الإيراني عبر قتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني.
ويعتبر الكثير من المراقبين أن الخطوة الأميركية التي قتل فيها سليماني ومعاون قائد قوات الحشد الشعبي العراقي أبومهدي المهندس تشي بتغيّر كبير في السياسة الخارجية الأميركية حيال إيران وأذرعها في منطقة الشرق الأوسط.
ويشدد المتابعون على أن مثل هذه البداية للعام الجديد ستزيد في إشعال الصراعات الدائرة في العالم والتي سيكون جلها متمحورا حول اقتراب لحظة بناء نظام عالمي جديد وهو ما تؤكده الاحتجاجات المتفرقة التي غطت مناطق ودول عدة في الشرق والغرب في نهاية 2019.
ما بعد سليماني

قبل مقتل قاسم سليماني تساءل الكثير من الخبراء عن مرد الضبابية التي تكتنف سياسة واشنطن في عهد الرئيس دونالد ترامب وتحديدا حيال بعض القضايا المصيرية وعلى رأسها كيفية تعاملها مع التهديدات الإيرانية المتواصلة لمنطقة الشرق الأوسط الحيوية.
لخص الكاتب الأميركي روبرت مالي في تقرير صادر بمجلة “فورين بوليسي” الصراعات المرتقبة بتأكيده أن العالم مقبل على عدد استثنائي من الحروب في 2020.
ويقول مالي في تقريره “لم يعد الأصدقاء والأعداء، على حد سواء، يعرفون أين تقف الولايات المتحدة. بينما تفرط واشنطن في بذل الوعود وفي النكث بها، تسعى القوى الإقليمية إلى إيجاد الحلول لمشكلاتها بمفردها –سواء كان ذلك من خلال العنف أو الدبلوماسية”.
لكن بمجرّد نجاح القوات الأميركية في القضاء على رجل إيران الأول في الشرق الأوسط قاسم سليماني، تبدّل الحديث عن نجاحات واشنطن الخارجية خاصة أنها تمكنت أيضا في أواخر 2019 من القضاء على أبوبكر البغدادي زعيم تنظيم داعش.
ويذهب مالي إلى التأكيد أن العالم في 2020 سيشهد صراعات تسلط الضوء على القضايا التي يهتم بها النظام الدولي وتلك التي لا يهتم بها، معتقدا أن هذه الحروب تروي قصة نظام عالمي اشتعلت فيه طفرة مبكرة من التغيير الشامل.
ويقر بأن واشنطن تحرص على الاحتفاظ بفوائد قيادتها ولا ترغب في تحمل أعباء حملها. وأنه نتيجة لذلك، يتم تحميلها خطيئة السماح باتساع الفجوة بين الغايات والوسائل. ويقول مالي في هذا الصدد “في هذه الأيام، لا يعرف كل من الحلفاء والأعداء تماما أين تقف أميركا”.
صراعات أكثر سخونة مرتقبة في عام 2020 لأنها ستواصل تكريس انعدام الثقة بين كل الأطراف المتنازعة محليا وإقليميا ودوليا
إن التغيير الذي يحدق بالعالم يضم أيضا أدوار قوى كبرى أخرى، حيث تُظهر الصين صبر دولة واثقة من نفوذها في التجميع، ولكنها ليست في عجلة من أمرها لممارستها بشكل كامل.
تختار الصين معاركها، مع التركيز على الأولويات المحددة؛ مثل السيطرة المحلية وقمع المعارضة المحتملة (كما في هونغ كونغ، أو الاعتقال الجماعي للمسلمين في شينغيانغ)؛ وكذلك بحري جنوب وشرق الصين؛ والحرب التكنولوجية المتصاعدة مع الولايات المتحدة. بينما تمارس استراتيجيات طويلة الأمد في أماكن أخرى.
كما تتبع روسيا وفق “فورين بوليسي” سياسة انتهازية في الخارج، وتسعى إلى تحويل الأزمات إلى مصلحتها من خلال تصوير نفسها كشريك حقيقي وأكثر موثوقية من القوى الغربية، ولذلك فهي تدعم بعض الحلفاء عسكريا بشكل مباشر خاصة في أفريقيا.
إن منع نشوب الصراعات أو حلها بالنسبة للقوى العظمى المتصارعة ينطوي على قيمة متأصلة، وهي أنهم يقيمون الأزمات على قاعدة نفعها أو إضرارها بمصالحهم، وكيف يمكن للأزمات أن تعزز أو تقوّض مصالح خصومهم.
ويشير التقرير الأميركي إلى أنه من الممكن أن تكون لأوروبا ثقل في موازين القوى الدولية، لكن في اللحظة التي تحتاج فيها بالتحديد إلى تأكيد نفسها، فإنها أيضا تكافح الاضطرابات الداخلية، والشقاق بين قادتها، وتنشغل بشكل مفرط بالإرهاب والهجرة التي غالبا ما تشوه سياستها.
أما في القارة الأميركية وتحديدا في البلدان اللاتنية، فإن فنزويلا تعيش على تعارض وعناد الحكومة، الذي يغذيه الإيمان بأن روسيا والصين ستخففان من التدهور الاقتصادي، مع افتقار المعارضة إلى الواقعية، المدعومة أميركيا والحالمة بأن واشنطن ستطرد الرئيس نيكولاس مادورو.
وتشكل سوريا نموذجًا مصغرًا لكل هذه الاتجاهات، حيث قامت الولايات المتحدة هناك بدمج خطابات الهيمنة بموقف متفرج سلبي.
لقد تشجعت الجهات الفاعلة المحلية (مثل الأكراد) بوعود الولايات المتحدة المبالغ فيها، ومن ثم شعروا بخيبة الأمل من عدم الوفاء بهذه الوعود. وفي الوقت نفسه، وقفت روسيا بحزم وراء حليفها الوحشي، في حين سعى آخرون في الجوار، أي تركيا، للاستفادة من الفوضى.
ويعرج التقرير الأميركي على قضايا أخرى لا تقل أهمية بتأكيده أن أولوية الرئيس الأوكراني الجديد ، فولوديمير زيلينسكي، تتمثل بإنهاء الصراع في شرق البلد – وهو هدف يجعله يدرك الحاجة إلى استخدام كييف للتسوية.
إن التطور الآخر الأكثر أهمية والذي يستدعي الانتباه يكمن في الاحتجاجات الشعبية في جميع أنحاء العالم التي تقوم شعاراتها على استياء من تكافؤ الفرص، يهدد حكومات الدول من اليسار واليمين، والديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، الغنية والفقيرة، من أميركا اللاتينية إلى آسيا وأفريقيا.
واللافت للنظر بشكل خاص هي الاحتجاجات في منطقة الشرق الأوسط في لبنان والعراق، حيث اعتقد العديد من المراقبين أن خيبات الأمل وإراقة الدماء بعد ما عرف بثورات 2011 من شأنها أن تثني عن حدوث موجة جديدة، لكن المتظاهرين استوعبوا الدروس، وتجنبوا العنف الذي يستغله خصومهم.
أجواء مشحونة
يمكن القول إن السودان يمثل أحد أفضل قصص العام الماضي، حيث أدت الاحتجاجات إلى سقوط حكم الرئيس عمر حسن البشير الذي امتد قرابة الثلاثين سنة، لتشهد إثر ذلك مرحلة انتقالية هامة يمكن أن تسفر عن نظام أكثر ديمقراطية وسلمية.
وفي الجزائر لعب القادة أدوارا للمحافظة على الحكم. أما في احتجاجات دول أخرى فقد جوبه المتظاهرون بالقمع والعنف. لكن رغم ذلك لا يزال الإحساس السائد بالظلم الاقتصادي الذي أوصل الناس إلى الشوارع قائما.
ويقول مالي ” إذا لم تستطع الحكومات الجديدة أو القديمة معالجة هذه المشاكل، فينبغي للعالم أن يتوقع إشعال المزيد من المدن في العام الجديد”.
ويتحدث التقرير عن إمكانية واردة لأن يكون 2020 عام إنهاء الحرب في اليمن وذلك نتيجة التقاء العوامل المحلية والإقليمية والدولية، وإذا لم يتم اغتنامها الآن، فقد تختفي بسرعة.
وتسببت الحرب في اليمن في قتل ما يقدر بنحو 100 ألف شخص، حيث دفعت بدولة كانت بالفعل من أفقر دول العالم العربي إلى شفا المجاعة. وأصبح اليمن خطا حاسماً في التنافس على مستوى الشرق الأوسط بين إيران من جهة والولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين من ناحية أخرى.
وعليه فإن فرضية السلام في اليمن يمكن أن تتحقق بانخراط جميع الأطراف المتنازعة في محادثات تهدف إلى تخفيف حدة الصراع وإخراج اليمن من ساحة الصراع الإقليمي.
وخفض المتنازعون وتحديدا قوات التحالف والحوثيين بشكل كبير من الضربات عبر الحدود. وإذا أدى هذا إلى إنشاء عملية سياسية برعاية الأمم المتحدة في عام 2020، فقد تلوح في الأفق نهاية الأزمة.
من جهتها تعيش إثيوبيا الدولة الأكثر اكتظاظا سكانيا في شرق أفريقيا تحديات هائلة تلوح في الأفق. حيث يستدل تقرير “فورين بوليسي” بالاحتجاجات الشعبية بين عامي 2015 و2018 التي أوصلت آبي أحمد إلى السلطة مدفوعة في المقام الأول بالمظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. لكن متبوعة بدلالات عرقية أيضًا، لاسيما في أكثر مناطق إثيوبيا اكتظاظًا بالسكان، أمهرة وأوروميا، حيث كان قادتهم يأملون في الحد من نفوذ أقلية التيغراي المهيمنة منذ فترة طويلة. فقد أعطى تحرر آبي وجهود تفكيك النظام الحالي طاقة جديدة للعرقية، مع إضعاف الدولة المركزية.
ومما يزيد من مخاطر حدة التوتر هو الجدال المحتدم حول النظام الفدرالي العرقي في البلاد، والذي يؤول سلطته إلى مناطق محددة على أساس الانتماءات العرقية اللغوية. حيث يعتقد أنصار النظام أنه يحمي حقوق المجموعة في دولة تعددية.
ويقول المنتقدون إن النظام القائم على أساس عرقي يضر بالوحدة الوطنية في البلاد. ويؤكدون أيضا أن الوقت قد مضى لتجاوز السياسة العرقية التي حددت الأمة وقسمتها منذ وقت طويل.
وسعى آبي إلى إيجاد حل وسط، لكن بعض الإصلاحات الأخيرة، بما في ذلك اندماجه وتوسيعه للائتلاف الحاكم، الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية، نقلته بحزم إلى معسكر الإصلاحيين. وخلال العام المقبل، سيتعين عليه بناء جسور لربط المناطق الإثيوبية، حتى مع المنتمين للأعراق الأخرى في صندوق الاقتراع.
وسيتعين عليه إدارة صيحات التغيير بينما يسترضي حارساً قديماً من المحتمل أن يخسره.
وفي شمال القارة الأفريقية يعد الملف الليبي من أوكد الصراعات التي ستحدد مصير المنطقة، حيث ارتفع منسوب التوتر بين حكومة فايز السراج والجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر.
وقبيل تنظيم مؤتمر برلين، فجرت تركيا هذه الأزمة بعقد الرئيس رجب طيب أردوغان اتفاقا عسكريا مع السراج كان محل انتقادات واسعة داخليا وخارجيا كونه يعد انتهاكا تركيا صارخا للسيادة الليبية.
ومع أن فرص إنهاء الحرب باتت ضئيلة على الأقل في مطلع العام الجاري، فإنه يتعين على القوى الأجنبية التوقف عن تسليح حلفائهم الليبيين والضغط وخاصة الضغط عليهم للعودة إلى المفاوضات.
ومن المرجح أن تكون النتائج وخيمة، بحدوث أزمة أكثر تدميرا ستزيد في حدة الاقتتال طويل الأمد تقوده الميليشيات، الموالية لحكومة السراج بدلاً من تشكيل حكومة واحدة مستقرة.
وفي قلب كل هذه الأزمات المترامية في مختلف مناطق العالم يبقى الملف الأكثر خطورة متعلقا بالتوترات بين إيران والولايات المتحدة خاصة بعد تمكن واشنطن من قتل الرجل الأول لطهران في منطقة الشرق الأوسط قاسم سليماني، حيث من المرجح أن يحمل عام 2020 نشوب حرب كبرى تتقاطع فيها مصالح قوى عدة.
إن قرار إدارة ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي لعام 2015 وفرض عقوبات متصاعدة ضد طهران كان له عواقب وخيمة، لكن لم ينتج عنه حتى الآن الاستسلام الدبلوماسي الذي تسعى إليه واشنطن ولا الانهيار الداخلي الذي قد تأمل في تحقيقه.
الحل العسكري

بدلاً من ذلك، استجابت إيران لما تعتبره حصارا شاملا من خلال تحقيق زيادة تدريجية في برنامجها النووي في انتهاك للاتفاقية، واستعراض عضلاتها الإقليمية بقوة، وإزالة أي علامة تدل على حدوث اضطرابات داخلية. ناهيك عن تصاعد التوتر أيضا بين إسرائيل وإيران. وما لم يتم كسر هذه الدورة من التوتر في العلاقات، فإن خطر حدوث مواجهة أوسع سوف يرتفع.
إن تحول طهران من سياسة أقصى درجات الصبر إلى أقصى درجات “المقاومة” جاء نتيجة إنهاء الولايات المتحدة الإعفاءات المحدودة بالفعل على مبيعات النفط الإيرانية. وفي ظل عدم ارتياح الأطراف المتبقية لمستقبل الاتفاق النووي، أعلن الرئيس حسن روحاني في مايو أن حكومته ستبدأ في انتهاك الاتفاقية تدريجياً
ومنذ ذلك الحين، قطعت إيران الحدود القصوى لمعدلات تخصيب اليورانيوم وأحجام المخزونات لديها، وبدأت في اختبار أجهزة الطرد المركزي المتقدمة، وأعدت تشغيل مصنع التخصيب في مخبأ “فوردو”.
ومع كل خرق جديد للاتفاقية، قد تفشل إيران في تحقيق مكاسب في مجال حظر الانتشار النووي إلى الحد الذي يقرر فيه الموقعون الأوروبيون أنه يتعين عليهم فرض عقوبات خاصة بهم. وفي مرحلة ما، قد تدفع التطورات الإيرانية إسرائيل أو الولايات المتحدة إلى اللجوء إلى العمل العسكري.
وقد أكدت سلسلة من الحوادث التي وقعت في الخليج العربي في العام الماضي، والتي بلغت ذروتها في هجوم 14 سبتمبر على منشآت الطاقة السعودية، كيف انتعشت المواجهة الأميركية الإيرانية في جميع أنحاء المنطقة.
وفي الوقت نفسه، تعد الضربات العسكرية الإسرائيلية المتكررة ضد الأهداف الإيرانية والمتصلة بإيران داخل سوريا ولبنان – وكذلك في العراق وحوض البحر الأحمر خطوة أخرى هامة وخطيرة.
دفع إدراك حجم المخاطر العالية وتكاليف الحرب العسكري بعض منافسي إيران في الخليج العربي إلى السعي إلى وقف التصعيد، حتى مع استمرارهم في دعم نهج “أقصى الضغط” لإدارة ترامب، حيث فتحت الإمارات خطوط اتصال مع طهران، ودخلت السعودية في حوار جاد مع الحوثيين في اليمن.
كما دفعت احتمالية الصراع أيضًا إلى بذل جهود بقيادة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لمساعدة الولايات المتحدة وإيران في إيجاد حل دبلوماسي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يتوق إلى تجنب الحرب، على استعداد لسماع مقترحات الرئيس الفرنسي، والإيرانيون مهتمون أيضا بأي اقتراح يوفر بعض العقوبات.
لكن مع انعدام الثقة العميق، يميل كل جانب إلى انتظار الطرف الآخر لتقديم التنازل الأول. ولكن من الواضح أنه لم يعد ممكنا بعد قتل سليماني تحقيق انفراجة دبلوماسية لتهدئة التوترات بين دول الخليج وإيران أو بين واشنطن وطهران.