العاشق الحزين ياسين رفاعية

الأحد 2016/06/05

مرات معدودة التقيت فيها الحكاء الحزين ياسين رفاعية في بغداد وعواصم عربية، جمعتنا مؤتمرات أو مهرجانات، ومرة واحدة كان مغمورا بهالة الحب المضيئة رفقة معشوقته الجميلة زوجته الشاعرة الراحلة أمل جراح التي ارتبط بها راوي الحكايات الحزين بقصة حب طويلة عمدتها الآلام والأحزان والمعاناة الممتدة على عقود من الزمن.

كان يزهو بها ويتحدث عنها وكأنها موغلة في عالم ضبابي غير مرئي لنا، ويقرأ لنا قصائدها ويتهدج صوته مثلما يستذكر المتعبد همهمات معبودته التي تتلاشى في الغياب، يتأمل وجهها الساهم الموسوم بالمكابرة والاصطبار الأنثوي السامي، يتحدث عنها ويقول “تستولد أمل القصائد من صراعها المستديم مع الألم” فتعقب أمل “وهل تولد القصيدة من غير صراع الحياة مع الموت والذاكرة مع الإغفال؟”، وليجعلها تغادر نبرة الخوف يمضي في ارتجال فكاهات وطرائف وحكايات ممتعة ويستعيد ذكريات جمعتهما أو يروي حكاية عن أصدقاء مشتركين، لا لشيء إلا ليحظى بابتسامة منها تفيض نورا على ملامحها وتتحوّل المرأة العاشقة المعشوقة إلى قصيدة ضوئية بيننا، يمسك يدها الرخوة كما لو أنه يريد التأكد من وجودها الحيّ ويتلمّس نبض قلبها العليل الذي خضع لثلاث عمليات وفي الرابعة عاند الأمل ومضى ليحسم قدرها ويمضي بها إلى الضفة الأخرى ويختم قصة الحب المجيدة.

ذات يوم زار ياسين رفاعية بغداد والتقينا صحبة أصدقاء، سلّمني عددا من مجلة الدستور التي كانت تصدر في لندن وفيها دراسة نقدية له عن كتابي القصصي الخامس “عالم النساء الوحيدات” حين صدور طبعته الأولى في منتصف ثمانينات القرن العشرين وأورد في مقدمة مقالته الرصينة العبارات التالية “وأنا أقرأ ‘عالم النساء الوحيدات’ أحسست أنني أقف أمام كاتبة عربية من طراز مختلف كاتبة متمكنة من فنها تحرك أحداث قصصها بأسلوب هادئ رصين، لم تعطني كاتبة أخرى حالة مشابهة غير سميرة عزام”.. سألته عن أمل فالتمعت مقلتاه وقال “إنها تحيا على حافات الألم وتهزمه بانهماكها في الشعر وصداح القصيدة وقد خضعت حينها لعمليتين في القلب”.

طلب أن نرافقه إلى بائع مجوهرات في الفندق الذي التقينا فيه ليشتري للحبيبة الغائبة الحاضرة حلية تذكّرها ببغداد ولبث يفاضل بين تصاميم الحلي الأنيقة حتى اقتنع أخيرا بسوار رقيق وطلب من الصائغ أن يحفر اسمها عليه.

لم يتوقف ياسين رفاعية عن كتابة القصة والرواية حتى أصدر روايته العشرين قبل رحيله، كان مخلصا لأسلوب عرف به لم يتجاوزه مثلما لم يتجاوز مآسيه الكثيرة التي ألقت بظلالها على أدبه وحياته وتحوّلت الى نهر من الحزن والفقدان يغترف منها نصوصه وعزاء الروح، كتب رفاعية القصة القصيرة بمهارة وحرفية عالية وكتب الشعر والنقد إلى جانب رواياته، وتماسك مكابرا أمام رحيل زوجته التي لحقت بها ابنته الشابة بعد عام.

لم يلتفت رفاعية لكل الأحكام النقدية المسبقة في كتبه ورواياته فاختط لنفسه ما عرف به من رومانسية آلت إليه من عقد الستينات في القرن الماضي ولبث مخلصا لها حتى رحيله، كان يكتب ما يهوى وما يريد دون خضوع لمساطر مقننة وظل يبدع نظامه الأدبي الخاص، عبر اعتناق ملهم للجمال والحياة التي خذلته مرارا وتخلت عنه أخيرا.. سلاما لروحك العذبة المعذبة أيها الصديق النبيل، ولتهدأ روحك القلقة في ملكوت الأبدية.

كاتبة من العراق

14