الظروف التي خلقت تنظيم داعش في العراق لا تزال موجودة

بغداد - تمت الإشادة بالانتخابات العامة التي جرت عام 2014 باعتبارها دليلا على إخلاص العراق لعملية التحول الديمقراطي التي بدأت بعد الغزو الأميركي عام 2003، مما يمثل علامة فارقة أخرى على طريق ترسيخ الديمقراطية. وجاء رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي تولى رئاسة الوزراء لفترتين، إلى طاولة المفاوضات مسلحا بتفويض انتخابي وتمكن من تحقيق بعض الإنجازات خلال السنوات الثماني التي قضاها في منصبه.
وبينما كانت كل الأنظار مسلطة على الخلافات بشأن تشكيل الحكومة الثالثة، قامت جماعة إرهابية تطلق على نفسها اسم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) بمداهمة مدينة الموصل في محافظة نينوى في العاشر من يونيو 2014. واستولت على كامل الأراضي في عملية واحدة بهدف يتمثل في إقامة خلافة إسلامية تشمل العراق وسوريا، وفي نهاية المطاف المنطقة بأكملها، والحكم بموجب نسختها من الإسلام. وقد شجع الانهيار الكامل لثلاث فرق من الجيش العراقي الإرهابيين وسمح لهم بالسيطرة على معظم محافظة صلاح الدين.
ومع سيطرة تنظيم داعش على معظم محافظة الأنبار منذ يناير 2014، فقد تمكن من السيطرة الكاملة على ثلث أراضي العراق في غضون بضعة أيام. وأصبحت الحكومة العراقية مشلولة بسبب عدم إحراز تقدم في المفاوضات السياسية بعد الانتخابات، واستمرار انهيار القوات المسلحة، ونقص الدعم العسكري من المجتمع الدولي.
وفي الثالث عشر من يونيو 2014، بينما كان تنظيم داعش على وشك الاقتراب من بغداد، أصدر آية الله العظمى علي السيستاني، أعلى علماء الدين الشيعة، فتوى نادرة تدعو "المواطنين العراقيين إلى الدفاع عن البلاد وشعبها وشرف مواطنيها وأماكنها المقدسة". وتطوع عشرات الآلاف للدفاع عن البلاد ومساعدة الحكومة في محاربة التهديد الوجودي الأكبر الذي واجهه العراق منذ تأسيسه في عام 1920.
ويقول الدكتور عباس كاظم، وهو مدير مبادرة العراق التابعة للمجلس الأطلسي، في تقرير نشره المجلس، إن محاربة داعش وهزيمته كانت من أهم إنجازات الشعب العراقي، حيث أظهرت صمود الأشخاص الذين دافعوا عن كرامتهم الوطنية وعن حريتهم في وقت لم يكن فيه أحد مستعدا أو راغبا في الدفاع عنهم، بما في ذلك حكومتهم.
وعلى الرغم من مشاركة دول أخرى - زوّدت إيران بغداد بالأسلحة بعد وقت قصير على غزو داعش، وشكلت الولايات المتحدة تحالفا لتقديم المشورة واللوجستيات والدعم الجوي بدءا من أغسطس 2014 - إلا أن أيا من هذه الجهود لم تكن ذات أهمية لو لم ينهض العراقيون للدفاع عن ديمقراطيتهم الناشئة، وإن كانت معيبة وغير مؤكدة.
ويضيف كاظم “لو استسلم العراقيون في اللحظات الحرجة بعد العاشر من يونيو 2014، كما استسلمت قواتهم المسلحة، لشهدت أحلامهم الديمقراطية نهاية كارثية تشبه إلى حد كبير ما حدث في أفغانستان في ظل ظروف مماثلة في عام 2021". ورفض العراقيون تسليم بلدهم إلى منظمة إرهابية أو ترك أنفسهم تحت رحمة المتطرفين الدينيين.
وأعادت أعمالهم الشجاعة في الأيام الأولى للأزمة الروح المعنوية للقوات المسلحة العراقية وأحيت ثقة المجتمع الدولي في مستقبل العراق. وما تلا ذلك كان مسألة وقت لتخطيط وإدارة معركة تحرير الأراضي التي استولى عليها تنظيم داعش ووقف حكمه القائم على القمع المدني المنهجي والقتل الجماعي.
وفي السنوات التي أعقبت هزيمة داعش عام 2017، أحرز العراق تقدما إيجابيا على الرغم من التحديات الخطيرة. وبعد أن تحمل الدروس المؤلمة من عام 2014، أعاد تنظيم قواته المسلحة لمنع حدوث انهيار أمني مماثل. وتقف هذه القوات اليوم من بين القوات الأكثر ثقة واستعدادا للقتال في المنطقة، وبعض مكوناتها قوة مكافحة الإرهاب التي تؤدي أداء على قدم المساواة مع نظيراتها الدولية.
وقد اكتسب القادة العراقيون ونظراؤهم في الدول الحليفة، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، الثقة في كفاءة وأداء القوات المسلحة العراقية، مما دفع إلى المناقشات حول انتقال التحالف العالمي لهزيمة داعش، إلى أربع دول أخرى، في اتفاقيات ثنائية بين العراق وأعضاء التحالف، مع التركيز على التعاون الأمني المستمر وبناء قدرات قوات الأمن العراقية.
وكان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أعلن في يناير الماضي عن "بدء الجولة الأولى من الحوار الثنائي بين العراق والولايات المتحدة لإنهاء مهمة التحالف في العراق". كما طلبت الحكومة العراقية من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إنهاء تفويض بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) بحلول نهاية عام 2025، بحجة أن العراق لديه الآن مؤسسات ناضجة للتعاون مباشرة مع المنظمات الدولية مثل الدول الأخرى.
◙ ما يحتاجه العراق لضمان نجاحه على طريق الأمن والحكم الذاتي هو معالجة التحديين الأكثر إلحاحا: عدم اليقين الاقتصادي والفساد
وفي الحادي والثلاثين من مايو، صوت مجلس الأمن الدولي بالإجماع على الموافقة على الطلب العراقي. ووصفت الحكومة العراقية هذه التطورات بأنها نهاية علاقات الطوارئ وبدء حقبة جديدة من التعاون الطبيعي مع المجتمع الدولي، مع ترك الحكم العراقي الداخلي لمؤسساتها التي اكتسبت القدر الكافي من النضج والكفاءة. ويرى كاظم أن ما يحتاجه العراق لضمان نجاحه على طريق الأمن والحكم الذاتي هو معالجة التحديين الأكثر إلحاحا: عدم اليقين الاقتصادي والفساد.
ولا يزال العراق يعتمد على اقتصاد ريعي، يعتمد بشكل كامل على عائدات النفط، التي لا تكفي لدعم التكاليف التشغيلية الحكومية أو ترك أموال إضافية للاستثمار في بناء اقتصاد قوي. والسبيل الوحيد أمام العراق للخروج من المستنقع الاقتصادي الحالي هو اقتصاد متنوع يشجع الاستثمار والقطاع الخاص.
ويجب على الحكومة العراقية أن تبتعد عن الفلسفة والممارسة القديمة المتمثلة في الاقتصاد الذي تسيطر عليه الدولة إلى اتجاه جديد حيث يتمثل دورها في خلق بيئة صحية يمكن أن تزدهر فيها الشركات الخاصة. وفي المقابل، تعتبر الحكومة العراقية جهة تنظيمية في معظم القطاعات التي لم يكن أداء الحكومات فيها تقليديا كافيا. ويجب إيلاء نفس الاهتمام للتهديد الخبيث المتمثل في الفساد.
وبعد عقدين من التغيير السياسي، تعايشت النخب السياسية العراقية مع ثقافة الفساد الراسخة، وقد ساهم في ذلك العديد من المسؤولين رفيعي المستوى. وحرم الفساد المالي والسياسي والإداري الممنهج الشعب العراقي من فرصة بناء دولة فاعلة وشفاء مجتمع عانى من صدمة خمسة عقود من الحروب والعقوبات الاقتصادية الدولية والإرهاب.
ولا تزال الجهود المبذولة لمكافحة الفساد محدودة النطاق ولا تستهدف سوى مرتكبي الجرائم غير المهمين. ولتأمين هزيمة دائمة لتنظيم داعش ومنع عودته، أو ظهور تهديد مماثل، من المهم القضاء على الظروف التي ساعدت مثل هذه المجموعة على الازدهار في البداية. وكانت ثقافة الفساد السائدة وضعف الاقتصاد من بين الظروف الرئيسية التي ساهمت في صعود تنظيم داعش في العراق.