الطلب على الأرز سيفوق العرض: تخطيط اليوم يقي من جوع الغد

واشنطن - الأرز بالنسبة إلى معظم العالم ليس مجرد طعام بل هو أحد السلع الأساسية وجزء من التاريخ الوطني والهوية الثقافية. عبر جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا وأفريقيا، هذه الحبة هي مكوّن رئيسي في النظام الغذائي اليومي وحجر زاوية في الاقتصاديات الإقليمية. لكن اليوم، بات الأرز محور قلق عالمي.
السلعة الأكثر شعبية واستهلاكا في العالم هي اليوم من بين أكثر السلع هشاشة، إذ تتركز صادرات الأرز حاليا بين بضعة منتجين، وتنتشر الإجراءات التجارية الحمائية في القطاع، ولا يمكن استبدال تنوعات الحبة بسهولة.
وتجعل هذه العوامل من صناعة الأرز عرضة بدرجة عالية لاضطرابات في السوق. وسيفوق الطلب المتوقع على الأرز العرض في الأمد القريب إلى المتوسط ما لم يتم اتخاذ إجراءات مناسبة لتغيير الاتجاهات الحالية. ويستبعد الخبراء في مركز ستراتفور للأبحاث الأمنية والإستراتيجية أن تنخفض المخاطر في المستقبل القريب نظرا لأنه يبدو من غير الأكيد بأن يبقى الأرز مسألة دائمة في المفاوضات التجارية التي تضم الولايات المتحدة أو منافسيها الآسيويين.
ويشكل الأرز أهمية خاصة بالنسبة إلى الأسواق الصاعدة أيضا، إذ أنه يعدّ عنصرا أساسيا رئيسيا في أغلبية الأسواق الناشئة في جنوب شرق آسيا وفي حوض الهند والمحيط الهادئ.
لأن عدد السكان في الشرق الأوسط وأفريقيا مقبل على الزيادة ستحتد المنافسة بين أهم منتجي الأرز على هذين السوقين
سلعة ساخنة
خلافا للقمح والذرة اللذين أدخلا في التجارة عبر الحدود لمئات من السنين، لم يدخل الأرز السوق العالمية إلا مع نهاية القرن العشرين. ونفخ تمرير الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية في سنة 1947، ثم في ما بعد تأسيس منظمة التجارة العالمية في سنة 1994، روحا جديدة في حياة التبادل الدولي للسلع والخدمات.
على الرغم من أن هذا النظام الاقتصادي الليبرالي تسبّب في مضاعفة التجارة العالمية للأرز أربع مرات منذ ثمانينات القرن العشرين، فإن هذه التبادلات مازالت تعني أقل من 10 بالمئة من الإنتاج الجملي للأرز في العالم. ويهيمن عدد قليل من المنتجين (كلهم موجودون في جنوب آسيا ومنطقة آسيا الباسيفيكي باستثناء الولايات المتحدة) على صادرات الأرز في مختلف أنحاء العالم. وفي هذه المنطقة كثيرا ما يتشابك أداء الحكومة مع إنتاج الأرز وتكلفته. وللمسؤولين الآسيويين كل الأسباب لضمان بقاء مستويات الإنتاج والعرض ثابتة.
وبالطبع لم يخلق كل الأرز متساويا، على الأقل في عيني المستهلك إذ يتباهى هذا النوع من الحبوب بأكثر من عشرين صنفا مختلفا، يصنّف بشكل عام على أنه عطر أو غير عطر، والمشترون لا تجدهم دائما مستعدين لاستبدال أحد الأصناف بالأخرى.
وهذه الاختيارات لها أهميتها بما أن المنتجين يختصون في زراعة أنواع مختلفة؛ فمثلا تتفوق كل من الهند وباكستان في تصدير أرز البسمتي إلى الشرق الأوسط وأوروبا. وبفضل الصادرات الهندية، شهد إنتاج الأرز تابسمتي في السنوات الأخيرة ارتفاعا كبيرا. وفي الأثناء يتجمع منتجو الأرز من صنف الياسمين في جنوب شرق آسيا حيث طالما تقدمت تايلاند في الإنتاج بالرغم من انضمام فيتنام وكولومبيا إليها في السنوات الأخيرة.
وكما هو الحال بالنسبة إلى الكثير من المنتوجات الأخرى، يولي المستهلكون أهمية كبرى للجودة، وبذلك يقوم المنتجون الذين يعتبر منتوجهم ذا جودة منخفضة مثل فيتنام بالتعويض عن ذلك عن طريق بيع سلعهم بسعر منخفض لمنتجين معروفين بجودة أعلى مثل تايلاند.
وتتدخل الحكومات في هذا الميدان أيضا عن طريق مساندة المزارعين غير القادرين عن المنافسة في غياب الدعم وفرض مراقبة على الأسعار لحماية المزارعين المحليين. وحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تلقّى منتجو الأرز 60 مليار دولار في شكل تمويلات دعم في سنة 2014، وهذا رقم مذهل نظرا لأن القيمة الجملية للأرز المباع في السوق العالمية تلك السنة كانت في حدود 20 مليار دولار.
|
منتوج راسخ في التقاليد العالمية
على مدى السنوات القليلة الماضية أدت الإجراءات الحمائية إلى عدة تحوّلات مهمة في سوق الأرز الدولي، فالهند التي كانت على الدوام منتجة كبيرة للأرز صعدت إلى قمة قائمة المصدرين العالميين له بمساعدة الدعم الحكومي وانخفاض قيمة عملتها.
وأدى توسع هذه الزراعة إلى تفاقم الإجهاد الكبير على الموارد المائية للهند، وستجد نيودلهي من الصعب أكثر فأكثر تلبية حاجات الري لهذه الزراعة إن لم تسارع بتنفيذ إصلاحات تتعلق باستعمال المياه.
وبشكل يشبه كثيرا الهند، اتخذت الصين خطوات لتعزيز الإنتاج المحلي من الأرز. وحوّل ارتفاع أسعار الأرز المدعوم بالتمويل الحكومي فضلا عن زيادة الاستهلاك الداخلي الصين إلى إحدى أكبر البلدان المصدرة في العالم.
وبالرغم من حصص التوريد المقيدة التي فرضتها بكين، فإن الأرز المزروع خارج الحدود الصينية أرخص بكثير من ذلك المزروع داخلها. وبينما ضمنت الترتيبات الحكومية بأن الأرز المزروع في الخارج يمثل نسبة مئوية صغيرة من استهلاك البلاد، فإن للحجم الهائل للسوق الصينية ضمن للبلاد دورا حاسما في سوق الأرز العالمية.
لن يختفي الطلب الكبير من الصين على الأرز المستورد في أي وقت قريب، ولن يختفي كذلك الدعم الحكومي الذي ينتظر أن يخفض الأسعار بنسبة 1.5 بالمئة في موسم الزراعة 2018-2017. وإصرارا منها على فتح السوق الصينية، رفعت الولايات المتحدة قضية ضد الصين لدى منظمة التجارة العالمية في أواخر السنة الماضية استنادا إلى حصص التوريد التي تفرضها بكين على الأرز والقمح والذرة.
لكن، بالرغم من أن واشنطن قد تحقق بعض النجاح في الوصول إلى منتوجات حبوب أخرى، من المرجح أن يبقى الأرز محميا بشدة نظرا لأهميته في الثقافة الصينية.
ونظرا لموقع الصين بوصفها أكبر مستورد للأرز في العالم سيكون لها الثقل الكافي لإملاء الكثير من الحواجز في هذا المجال بما في ذلك الترتيبات المتعلقة بالصحة النباتية، وهو نوع من الإجراءات الذي من المرجّح أن يكون محور المحادثات التجارية المقبلة التي ستجريها بكين مع واشنطن.
وفي الوقت نفسه يتجاوز النفوذ الصيني على الإنتاج العالمي من الأرز مستويات استهلاكها والإجراءات الحمائية الخاصة بها، فمثلا يعتمد مزارعو الأرز في تايلاند وفيتنام بشكل كبير على نهر ميكونغ لريّ زراعاتهم، لكن الصين سعت إلى مزيد التحكم في هذا المورد المائي على أمل تعزيز نفوذها.
مع ذلك، قد يمثّل منتجو الأرز في منطقة جنوب شرق آسيا تهديدا لأنفسهم أكبر من التهديد الصيني. يرتبط نجاح الكثير من الحكومات ارتباطا وثيقا بنجاح الأرز، وعادة ما تستخدم الإدارات المساعدات لهذا القطاع من أجل زيادة المساندة لها لدى المجتمعات الريفية. مثلا أنفقت تايلاند 16 مليار دولار بين 2012 و2014 لدعم المزارعين المحليين لمجابهة المنافسة المتزايدة من البلدان المجاورة وانخفاض الأسعار في الخارج.
بيد أن الهيكل السياسي غير المستقر في البلد وتناقص الموارد المالية أديا إلى عدة تعديلات في خطة الدعم الحكومي مما يدخل المزيد من الضبابية على السوق. وفي البلدان التي يكون فيها الأرز جزءا من النسيج الثقافي للمجتمع، مثل تايلاند، قد يحاول المسؤولون الإبقاء على الدعم الحكومي لهذا القطاع لفترة طويلة بعد أن تبيّن أنه غير مستدام ماليا، وذلك على حساب المنتجين المحليين للأرز.
حفّز الدعم المكثّف المقدّم في العقود القليلة الماضية الإفراط في الإنتاج في السوق العالمية. وبالرغم من محاولات حكومتي تايلاند وفيتنام إقناع مزارعي الأرز للانتقال إلى زراعات أخرى، ارتفع الإنتاج العالمي إلى أكثر بقليل من 42 مليون طن، وهو رقم أقل من مستويات الإنتاج لسنة 2014 لكن أعلى من مستويات 2016.
ستستمر معاناة سوق الأرز العالمية من الهشاشة وعدم الفاعلية التي تصحب الدعم الحكومي المفرط إن لم تتخذ إجراءات لتعديلها
يمكن إرجاع جزء من النموّ المسجّل هذه السنة إلى فيتنام التي زاد إنتاجها بالتوازي مع ارتفاع الطلب من الشرق الأوسط. ولأن عدد السكان في الشرق الأوسط وأفريقيا مقبل على الزيادة في السنوات المقبلة ستحتدّ المنافسة بين أهم منتجي الأرز في العالم في سعيها إلى الحصول على نصيب في هذين السوقين.
جذور المحادثات التجارية الآسيوية
السياسة الحمائية ليست حكرا على العالم النامي، فعلى الرغم من أن اليابان وكوريا الجنوبية لا تلعبان إلا دورا صغيرا في تجارة الأرز العالمية، كل من هذين البلدين يفرض رسوما جمركية على هذا القطاع تتجاوز 200 بالمئة وتصرف المليارات من الدولارات في السنة على الدعم للأز.
وبالمقارنة، يتلقى المنتجون في الولايات المتحدة (وهي البلد المتطور الوحيد من بين أكبر خمسة مصدرين للأرز في العالم) دعما سياسيا واجتماعيا أقل من زملائهم الآسيويين. وبما أن الولايات المتحدة تنتج كمية من الأرز أكبر بكثير من استهلاكها، يعتمد المزارعون الأميركيون على التصدير (وبصورة موسعة، على الاتفاقيات التجارية التفاضلية) لتغطية نفقاتهم.
وهذا يفسر شعور منتجي الأرز الأميركيين بالإحباط إزاء "الشراكة العابرة للمحيط الهادي" عندما أمضيت في البداية، إذ لم يحصلوا على نفاذ يذكر للسوق اليابانية التي كانت عرضة للحط من قيمة الأرز الأميركي عن طريق تركه في التخزين أو تضمينه إلى شحنات المساعدات الغذائية.
زيادة على ذلك، وافقت المكسيك على إزالة الرسوم الجمركية على الواردات من الأرز القادمة من فيتنام، وهي إحدى المنافسين الأساسيين للولايات المتحدة في السوق المكسيكية. وبالرغم من أن واشنطن انسحبت من المعاهدة المتعددة الأطراف، يخبرنا تاريخها عن التحديات التي تنتظر المحادثات التجارية الثنائية التي ستأخذ مكانها.
المعاهدة التجارية بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية هي إحدى الاتفاقيات المزمع إعادة التفاوض في شأنها، على الأقل كما تأمل واشنطن. لقد وعدت سيول بعد برفض أي تغييرات للاتفاقية الحالية بين البلدين لا توصي بها لجنة مشتركة موضوعية. ولكن في صورة إعادة فتح المفاوضات قد يصبح الأرز مسألة مستعصية مثلما كان في سنة 2007 عندما سحب المتفاوضون الموضوع من الطاولة لضمان التطبيق الأولي للاتفاق.
في الأشهر المقبلة، سيبقى الأرز في قلب المفاوضات التجارية التي تخص أكبر منتجي ومستهلكي الأرز في القارة الآسيوية. ومثلما كان واضحا في الصفقات الثنائية الأخيرة بين الاتحاد الأوروبي من جهة، واليابان وميركوسور (السوق المشتركة الجنوبية) وكندا من جهة ثانية، حتى النقاط الخلافية الصغيرة يمكن أن تؤجّل الاتفاقيات التجارية أو تفشلها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالفلاحة.
والأرز ليس بالموضوع الهيّن بالنسبة إلى أغلب البلدان الآسيوية. ومع ذلك، بينما تعمد البعض من البلدان إلى إبعاد هذا القطاع عن المحادثات التجارية من أجل الدفع بها قدما، ستستمر معاناة سوق الأرز العالمية من الهشاشة وعدم الفاعلية التي تصحب الدعم الحكومي المفرط إن لم تتخذ إجراءات لتعديلها، وفق تقديرات مركز ستراتفور.