الطبيب العراقي هدف محتمل في مجتمع مريض

أمر طبيعي أن يتلاسن طبيب مع عائلة مريض ما في أي بلد في العالم، ولكن في بلد كالعراق، معروف بخروج عاداته عن المألوف، قد تكلف حادثة مماثلة حياة طاقم طبي بأكمله، ما دفع بالعديد من الأطباء إلى الهجرة، مما ينذر بأزمة صحية في البلاد.
بغداد - اضطرت شيماء الكمالي إلى الفرار من المستشفى الذي تعمل فيه عبر الباب الخلفي، هربا من مسلحين غاضبين أتوا للانتقام منها، بعدما منعت والد أحد المرضى من البقاء في المستشفى خارج ساعات الزيارة.
تقول الأخصائية في طب الأسرة “نزعت القميص الأبيض وخرجت مع زميلي. غادرنا معا في سيارة أجرة كما لو كنت زوجته، ولم أعد إلى العمل لمدة عشرة أيام”.
ومن البصرة في أقصى الجنوب، إلى سامراء شمال العاصمة بغداد، يروي الأطباء والنقابيون والمسؤولون الصحيون القصص نفسها: أطباء يتعرضون للضرب أو التهديد بالقتل أو الخطف بسبب ممارستهم لمهنتهم.
قانون الغاب
“فرصة إنقاذ طبيب تعني إنقاذ حياة الكثير من المرضى”، هذه رسالة حملة أطلقتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالتعاون مع وزارات الصحة والداخلية والدفاع ونقابة الأطباء وعدد من الفاعلين المحليين في العراق باسم “الرعاية الصحية في خطر”.
لكن يبدو أن الحملة تواجه على صفحاتها بمواقع التواصل الاجتماعي سيلا من الانتقادات والهجوم على الأطباء والسخط عليهم.
وجمعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر شيوخ العشائر مع مسؤولين بوزارة الصحة، واتفقوا على وضع آلية للتحقيق مع الأطباء ومحاسبتهم إذا ثبت تقصيرهم.
لكن في حال لم يتم استهداف الأطباء بشكل مباشر، فإن الجسم الطبي يؤخذ أحيانا في دوامة العنف التي تعصف بالبلاد منذ سنوات. فبعيدا عن كونه ملجأ، يصبح المستشفى في بعض الأحيان ساحة قتال بين المسلحين.
ووفق منظمة الصحة العالمية، في العام 2017، كان لدى العراق أكثر من تسعة أطباء لكل عشرة آلاف نسمة، أي أقل بثلاث مرات من دولة الكويت المجاورة، وحتى أقل بضعفين من ليبيا التي تعصف بها الفوضى.
وبحسب ما يقول الطبيب حسين عداي، فإن في محافظة البصرة النفطية بجنوب العراق، حيث للقانون العشائري سطوة كبيرة وللمجموعات المسلحة تواجد كثيف، “تقع شهريا حوالي 15 حالة اعتداء جسدي أو لفظي”.
ويضيف الأربعيني المختص في أمراض المعدة والأشعة أن هذا الأمر “أدى إلى فقدان كم غير قليل من الأطباء أصحاب الاختصاصات النادرة مثل جراحة القلب والجملة العصبية”.
وفي بلد تحكمه العادات العشائرية، تقول شيماء الكمالي إن الأطباء يطالبون في بعض الأحيان بدفع فصل عشائري، يصل إلى 40 أو 50 مليون دينار (نحو 45 ألف دولار).
وحسب إحصاءات فريق الصحة والبيئة التطوعي المسؤول عن مشروع “الرحمة” لحماية الكوادر الطبية، تعرض 57 بالمئة من العاملين في الرعاية الصحية بالعراق لاعتداءات، منهم 55 بالمئة تعرضوا لإساءات لفظية و9 بالمئة لاعتداءات جسدية و6 بالمئة لاعتداءات عشائرية. وتؤكد سحر مولود نائبة رئيس لجنة الصحة في محافظة صلاح الدين شمال بغداد، أن “الاعتداءات أصبحت حالة عامة في عموم محافظات العراق”. وتضيف “أحيانا يصل المريض بحالة حرجة وقريب من الموت، وعند وفاته يعتقدون أن الطبيب والكوادر الطبية لم يمارسوا دورهم”.
وكان الطبيب سرمد عبدالأمير المختص في أمراض القلب ضحية القوانين العشائرية، فقد أجرى عملية خطيرة في القلب لرجل كبير في السن لم يكتب لها النجاح، فأقدمت قبيلة المتوفى على إغلاق عيادته بالقوة وكتبت عليها عبارة “مطلوب عشائريا” وتعني في المفهوم الشعبي خيارين إما أن يتعرض للأذى وربما القتل وإما دفع أموال الدية.
ويقول عبدالأمير “استطاع أهالي المتوفى الوصول إلى منزلي وهددوا عائلتي، اضطررت بعدها إلى دفع مبلغ دية قدره مئة ألف دولار لعائلة المتوفى رغم أن التقارير الطبية قبل إجراء العملية كانت تشير إلى أن نسبة نجاحها محدودة وعائلته وافقت على تحمل النتائج، وبعد إجراء العملية تنصلت عن ذلك”. وقرر عبدالأمير مغادرة البلاد إلى الأردن.
ويرى عبدالأمير محسن نقيب الأطباء أن الدولة “غير جادة بحل المشكلة”. ويكشف محسن أن “عدد الأطباء الذين قتلوا بعد 2003 وصل إلى 330 طبيبا وطبيبة، ووصل عدد حالات الخطف إلى 300 حالة”.وترى شيماء الكمالي أن الأزمة في وجود “دولة بلا قانون تسيطر عليها الميليشيات والأحزاب والقوى العشائرية”، مشيرة إلى أن “الطبيب ضحية سهلة للابتزاز والرضوخ لأي مبلغ وفصل عشائري حتى يغلق الموضوع ويحافظ على حياته”.
وفي هذا الإطار، يقول رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر بيتر ماورير، إن الضغوط على الأطباء تفسد المبادئ الأساسية لمهنة الطب.
ويوضح رئيس المنظمة التي تقود حملة ضد ظاهرة العنف التي تطال الرعاية الصحية “نشعر بالقلق إزاء تدخل العادات القبلية والطائفية بقسم أبقراط (الذي يؤديه الأطباء قبل ممارسة مهنتهم) الأساسي في علاج المرضى على قدم المساواة، وهو ما يتوقف على مدى خطورة المرض وطابعه الملح، ولا يعتمد على الأصول أو الانتماء العرقي أو إيمان شخص أو جماعة”.
وفي عام 2013، صوت البرلمان على قانون يتيح للأطباء امتلاك مسدس، لكن بالنسبة إلى رئيس نقابة الأطباء عبدالأمير، فإن تلك المسألة “مجرد كلام، القانون لم يطبق”.
وعليه، دعا النائب الأول لرئيس مجلس النواب العراقي حسن الكعبي إلى “معاقبة مرتكبي الاعتداءات على الأطباء، وفقا لقانون مكافحة الإرهاب”، الذي ينص على عقوبة الإعدام. لكن رغم ذلك، تؤكد الكمالي “مع الأسف أصبحنا في غابة وانعدم القانون، العصابات تهدد الأطباء!”.
"مدينة الطب" تداعت
يختار أطباء كثيرون الهجرة، ما أوجد أزمة حقيقية بين المواطنين الذين بدأوا بدورهم السفر واللحاق بأطبائهم أو أطباء الدول المجاورة، ويعتبر لبنان والأردن وإيران والهند بلدانا مفضلة للعراقيين للعلاج، وهو ما أضاف أعباء مالية كبيرة على كاهل العراقيين.
وتنتشر العشرات من المكاتب في بغداد والمحافظات المختصة بالتنسيق بين المرضى العراقيين ومستشفيات الهند، عبر توفير الفيزا والاستشارة الطبية والمترجمين عند وصول المرضى إلى هناك، وبعض هذه المكاتب مجازة من قبل وزارة الصحة العراقية، ولكن الغالبية منها تكون غير مجازة وتلجأ المكاتب إلى إنشاء صفحات على فيسبوك لجلب الزبائن، ولاحقا يُفاجأ المرضى بسوء الخدمة الطبية عندما يصلون إلى الهند.
وبحسب دراسة أعدتها وزارة الصحة بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة الصحة العالمية ونقابة الأطباء العراقيين، فقد هاجر من العراق “أكثر من عشرين ألف طبيب وطبيبة بين عامي 2003 و2018”.
وقال المتحدث باسم وزارة الصحة سيف البدر في حديث لوسائل الإعلام العراقية إن السنوات الأخيرة شهدت هجرة نحو 20 ألف طبيب على الرغم من عدم وجود إحصائية دقيقة عن ذلك، مبينا أن “الطبيب العراقي مشهود له بالكفاءة وبالتالي فإن دول الجوار والعالم تستقبل هذا الطبيب الذي يكون جاهزا وذا خبرة كبيرة”.
وأضاف البدر أن “الأجور والتهديد من أبرز الأسباب التي تؤدي بالطبيب العراقي للهجرة”، لافتا إلى أن “معدل أجر الطبيب والممرض الذي يتقاضاه في العراق يعتبر قليلا مقارنة مع ما يتقاضاه الأطباء والممرضون بدول الجوار أو العالم”. وحسب المسؤولة في البعثة الرئيسية في اللجنة الدولية للصليب الأحمر سحر توفيق سليمان، عبر 70 بالمئة من الكوادر الصحية والطبية عن رغبتهم في الهجرة خارج العراق إذا أتيحت لهم الفرصة.
واليوم، أصبحت “مدينة الطب” المتألقة في بغداد، والتي كانت أهم الصروح الطبية في العالم العربي في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، مجرد مبان متداعية تفتقر إلى معدات أساسية، على غرار كل مؤسسات البلاد. كما أن اليوم، أطباء العراق لا يتمنون لأبنائهم أن يصبحوا أطباء! وإذا كانوا لا يحبون غير الطب فإنهم يشجعونهم على الصيدلة.
وأشار مراقبون إلى أن أكثر من 600 طبيب يريدون التحول لمهن أخرى، خشية الاختطاف وتكرار حالات الاعتداء عليهم، وضحوا بسنين الدراسة الطويلة والوضع الاجتماعي المرموق، بعد أن ارتفعت وتيرة الاعتداءات عليهم.
وتدرك وزارة الصحة ما يواجهه بعض الأطباء، لكنها عاجزة، وتُحمّل أجهزة الأمن مسؤولية حمايتهم والمؤسسات الطبية من الاعتداء، والداخلية العراقية تلقي باللائمة على ما تصفه وضعا عاما وشاذا تمر به البلاد في ظل غياب هيبة الدولة والقانون.
الطبيب العراقي هو الأقدر
أعلنت المفوضية العليا لحقوق الإنسان أنها تابعت بـ”قلق بالغ الإحصائيات الخطيرة” بشأن ظاهرة هجرة الأطباء.
وقال عضو المفوضية علي أكرم البياتي “تابعنا بقلق بالغ ما أعلنته وزارة الصحة من أرقام وإحصائيات خطيرة حول ظاهرة هجرة الأطباء، وهذا الأمر يتطلب وقفة حقيقية من قبل مؤسسات الدولة والمجتمع للحد من هذه الظاهرة، إذ لا يمكن أن تعمل المؤسسة الطبية دون وجود الطبيب كونه الأساس بالإضافة إلى الكوادر المهمة الأخرى أيضا”.
وأضاف البياتي أن “الطبيب العراقي هو الأقدر على التعامل مع المجتمع العراقي الذي مرَّ بأزمات كثيرة وكبيرة ولا يزال ولا يمكن التفكير باستبداله بجلب أطباء من دول أخرى مع ضرورة الاستفادة من الخبرات الدولية”، مشيرا إلى أن “الوضع العراقي الداخلي يحتم على الدولة الحفاظ على الطاقات العراقية في جميع الاختصاصات”.
وأشار إلى أن “السلبيات الموجودة في القطاع الصحي الذي يلقى فيها اللوم على الطبيب لكونه في الواجهة مع المجتمع أسبابها كثيرة وأهمها عدم وجود نظام صحي حديث، وقلة المؤسسات الصحية وإمكانياتها وكوادرها الصحية والطبية، بالإضافة إلى قلة التخصيصات المالية في كافة الميزانيات السنوية لهذا القطاع، والفساد المستشري وضعف الرقابة، وهو ما أثر بشكل واضح على مستوى الخدمات”.
وتابع أن “المرحلة الحالية تتطلب بذل الجهود من الجميع للحفاظ على استقرار المؤسسات الصحية وضمان الحفاظ على الأطباء والكوادر الطبية الأخرى، ومن أجل تحقيق هذا الهدف نطالب بتفعيل قانون حماية الأطباء الذي يعاقب بالسجن ما لا يقل عن سنة كل من يقوم بالاعتداء على الطبيب أو الموظف أثناء تأدية واجبه”.
واختتم البياتي بيانه بالقول “ندعو إلى ضرورة توعية المواطن وتوجيهه بوجود منافذ قانونية واضحة لتقديم الشكوى في حال وجود أي تقصير أو انتهاك لحقه في الرعاية الصحية، كما ندعو أيضا وسائل الإعلام إلى ممارسة دور إيجابي وبناء في الدفاع عن حقوق كل مواطن عراقي سواء كان طبيبا أو مريضا”.