الطبقية طبيعة متأصلة في نظام إيران

الأربعاء 2016/09/07
تفصيل نظام على مقاس النخبة المسيطرة

لا يمكن فهم السلوك السياسي للنظام الحاكم في إيران دون فهم الطبيعة الطبقية لهذا النظام وتحديدا طبيعة الطبقة المسيطرة اقتصاديا وثقافيا وسياسيا. فمن سيطر على الدولة بعد خروج الشاه تحالف فئتين من البرجوازية الصغيرة والمتوسطة تتمثلان بالبازار والعمائم.

يتكون البازار من التجار وصغار الممولين والحرفيين، وهم من يدفعون خمس ما يجنون من أرباح سنوية للمرجعيات الدينية التي تسوق لهم. وأصحاب العمائم هم رجال الدين المنتظمون في شبكة متراصة تتبع المرجعيات من آيات الله. وهم يسيطرون على المساجد والمزارات الدينية ويروجون منها للفكر السياسي الديني، وبالطبع هم من يحصل على الأخماس ليوظفوها بحسب ما تمليه عليهم مصالحهم.

ويشكل طرفا التحالف قوة تنظيمية وسياسية وثقافية واقتصادية كبيرة أحاطت بالمجتمع وتمكنت في ظل ضعف القوى التقدمية الجذرية والعمالية المنظمة والمستقلة والمسيسة، حيث كان الحزب الشيوعي الإيراني (توده) الذي يتبع “التقويم السوفييتي” في مرحلة التاريخ ينادي بضرورة دعم البرجوازية الوطنية لتصل إلى السلطة كمرحلة تسبق الانتقال إلى الاشتراكية.

رجال الدين يسيطرون على أكبر المرافق الاقتصادية والتعليمية والصحية وصولا إلى محلات بيع المفرق والصيدليات

وكان للانقلاب الذي دبرته المخابرات البريطانية والأميركية على حكومة مصدق بعد إعلانه تأميم قطاع النفط أن رسخ في إيران على المستوى الشعبي العداء للإمبريالية.

وقد أحسن رجال الدين توظيف الشعارات الراديكالية ضد أميركا وبريطانيا والغرب عموما وضد إسرائيل لرفع رصيدهم الشعبي، ما جعل حتى اليساريين واللبراليين في موقع الداعم لهم.

كانت إيران في عهد الشاه كأي من بلدان العالم الثالث محكومة من طبقة أرستقراطية متحالفة مع برجوازية تسوّق للرأسمال الغربي سلعه وثقافته وتحظى بحماية ودعم الدولة ويقوم نظامها السياسي (نظام الشاه محمد رضا بهلوي) بحماية المصالح الغربية في المنطقة الاستراتيجية التي تحتل إيران وسطها والتي تعوم على بحر من الثروات وخصوصا النفط والغاز.

انطلقت أولى شرارات الثورة الإيرانية من هناك. فقد كان فقراء المدن “هم أولى الشرائح الاجتماعية التي أشعلت فتيل الثورة في يونيو 1977”، ثم في نوفمبر أقام الكتاب والأكاديميون والشعراء سلسلة من الندوات والمحاضرات والأمسيات الشعرية المنددة بفساد الطبقة التي تدير البلاد وتبدد ثرواتها.

أما تحرك رجال الدين، فقد انطلق في ديسمبر من العام نفسه، وبقيادة روح الله الخميني الذي كان في المنفى، فبدأوا يحرضون على التظاهر ضد الشاه ويعممون الدعوات المناهضة له. وكان الشاه في سياق ما اعتبره إصلاحات اقتصادية قد ضيق على رجال البازار بالعديد من الإجراءات الاقتصادية ما ساعد رجال الدين على توسيع دائرة نفوذهم بانضمام البازار إلى تحركهم المناهض للشاه.

بعد الهزيمة التي تلقتها الإمبريالية الأميركية على أيدي ثوار فيتنام، وفي ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة في سبعينات القرن الماضي، كانت بالنسبة إلى الأدارة الأميركية، هدية من السماء، حين هبط روح الله الخميني في طهران ليغير جذريا مسيرة الثورة الإيرانية ويحولها إلى مشروع إسلامي الصفة استبدادي النهج، فانقلب على الثورة وعلى أهدافها وسحق ليس فقط خصومه بل وأقرب المقربين إليه لمجرد إبدائهم معارضة ما لهذا النهج.

ورغم أن اليساريين واللبراليين كانوا على رأس التحركات الشعبية التي اندلعت منذ صيف 1977، غير أن تحالف العمائم البازار كان أكثر تنظيما وقد سخر الشعارات الدينية بمنهجية فائقة ساعدته على استقطاب الغاضبين على سلوك الشاه وخصوصا علاقاته بالغرب، في حين كان اليسار يعتبر التنسيق مع هذا الحلف مكسبا للثورة.

وكانت قوى التغيير من لبراليين، وخصوصا اليساريين أول ضحايا انقلاب الخميني. فبعد سحقه لقيادات الصفوف العليا في نظام الشاه إعداما على أعواد المشانق أو اغتيالا في الداخل وفي الخارج، تفرغ للقضاء على كل صوت معترض بمن في ذلك أول رئيس جمهورية منتخب وأحد أبرز أصدقاء الخميني في المنفى، أبو الحسن بني صدر، الذي عزله من منصبه واغتال مساعديه فاضطر الأخير إلى الهرب متخفيا إلى فرنسا.

صحيح أن صراعا على السلطة كان قائما بين كل من تحالفي الشاه والأرستقراطيين ومعهم طبقة من البرجوازية الكمبرادورية من جانب وبين تحالف رجال الدين والتجار من جانب آخر، غير أن السبب المادي والفعلي للثورة كان ذلك التفارق الطبقي العظيم بين حلفاء القصر والطبقات الشعبية الذي تجلى بهدر المال العام وخصوصا إيرادات النفط على الترف والبذخ، في حين كان معظم الإيرانيين يغرقون في فقر مدقع ولا يجدون فرص عمل تقيهم العوز، وكانت سلسلة من الأحداث والمعارك التي خاضتها قوى اليسار الجديد الذي انبثق خلال ستينات القرن الماضي قد مهدت لتلك الثورة، في حين كان الإمام الخميني وسواه من رجال الجين المعارضين للشاه ينعمون بطيب الإقامة في باريس والنجف وكربلاء.

أكثر من 40 بالمئة من الإيرانيين يرزحون تحت خط الفقر، إذ تصل نسبة البطالة إلى 33 بالمئة من القوى العاملة، ويعاني العاملون والموظفون وخصوصا المعلمين وضعا معيشيا مرهقا

وكان تحالف رجال الدين وتجار البازار قد بدأ بتطهير الجبهة الداخلية منذ السنة الأولى لعزل الشاه وأقام دستور ما سماه الجمهورية الإسلامية بمؤسساتها المعروفة، إضافة الى مؤسسات محدثة سيطر عليها رجال الدين، تقبض على عنق الدولة وتسيرها، كما تأسّس الحرس الثوري الإيراني كجيش رديف للجيش الإيراني مهمته تصدير الثورة ما يعني تمهيد الطريق للهيمنة الإيرانية في المنطقة.

بعد أقل من عام على انتهاء الحرب العراقية الإيرانية (أغسطس 1988) توفي المرشد الأعلى الخميني (يونيو 1989)، فتم انتخاب علي خامنئي خلفا له طبعا من قبل مجلس خبراء القيادة. وبعد ذلك تفرغ النظام الإيراني لبناء المنظومة الاقتصادية وإعادة النظر في منظومة الهيمنة الإقليمية.

وتحول تحالف رجال الدين وتجار البازار إلى مافيا اقتصادية أخطبوطية تتمتع بكل أدوات السيطرة والسطوة الدينية على المجتمع وتستحوذ على أكثر من خمس وثمانين بالمئة من الاقتصاد الإيراني بما في ذلك ما يمتلكه الحرس الثوري والذي يقدر بحد أدنى بثلث هذا الاقتصاد.

في الوقت نفسه يرزح أكثر من 40 بالمئة من الإيرانيين تحت خط الفقر، إذ تصل نسبة البطالة إلى 33 بالمئة من القوى العاملة، ويعاني العاملون والموظفون وخصوصا المعلمين وضعا معيشيا مرهقا، فالحد الأدنى للأجور لا يزيد عن 400 دولار، في حين يتقاضى كبار الموظفين أكثر من مئة ضعف هذا المبلغ.

وإذا كان رجال الدين قد باتوا قوة اقتصادية كبرى بمصادرتهم أموال المنفيين وهم كبار أثرياء إيران في عهد الشاه وإدارتهم للجمعيات الخيرية والمزارات الدينية وبتقاضيهم الأخماس، فإنهم باتوا يسيطرون على أكبر المرافق الاقتصادية والتعليمية والصحية وصولا إلى محلات بيع المفرق والصيدليات… ما جعلهم يتحولون إلى أكبر مافيا عالمية تسيطر على بلد إقليمي بحجم إيران وتمتلك قوة عسكرية محلية وأعدادا من المليشيات المذهبية في البلدان المجاورة شديدة التنظيم وذات أيديولوجيا دينية موغلة في الرجعية وعلى استعداد لخوض المغامرات العسكرية والإرهابية إقليميا ودوليا تنفيذا لمشاريع الهيمنة الإيرانية ضمن التنافس والتكامل مع قوى الهيمنة الرئيسية في النظام العالمي.

كاتب لبناني

12