الضوء في نهاية النفق: اختراق كبير في طاقة الاندماج النووي

بعد أكثر من 50 عاما من البحوث لتحقيق الاندماج النووي بشكل تجاري، تمكنت شركة فيرست لايت من بناء نموذج أولي لمفاعل الطاقة المستقبلية المنتظر.
أوكسفورد (إنجلترا) - صرّحت شركة فيرست لايت بأنها حققت اندماجا نوويا، وهو ما أكدته هيئة الطاقة الذرية البريطانية مما يعد اختراقا كبيرا في واحد من أهم مشاريع الطاقة في العالم.
وتتمثل مهمة فيرست لايت في حل مشكلة تحقيق الاندماج بأبسط أداة ممكنة. وتعد تقنية “اندماج المقذوفات” نهجا جديدا للاندماج النووي وهو أبسط وأكثر كفاءة في توليد الطاقة وله مخاطر عملية أقل.
وحققت فيرست لايت الاندماج بعد أن أنفقت أقل من 45 مليون جنيه إسترليني، وتمكنت من تحسين معدل الأداء بشكل أسرع من أي مشروع اندماج آخر في التاريخ.
وقال وزير الأعمال والطاقة البريطاني كواسي كوارتنغ “يمكن لتقنية فيرست لايت المولودة في بريطانيا أن تحدث ثورة في إنتاج الطاقة في العقود القادمة. وتستثمر الحكومة لهذا السبب في العلوم والابتكار في المملكة المتحدة، مما يضمن أننا نظل في طليعة المسعى العلمي العالمي لتحقيق الأمان والنظافة وجعله حقيقة واقعة”.
ويوفر “اندماج المقذوفات” طريقة اندماج نووي أبسط وأرخص وأسرع. والاندماج النووي هو الطاقة التي تغذي الشمس.
ويكمن التحدي التقني في التحكم في التعقيدات التي ينطوي عليها تكرار هذه العملية لإنتاج مصدر طاقة نظيف ووفير ولكنه أيضا قابل للتطبيق صناعيًّا.
وتعتمد فيرست لايت أسلوبا فريدا لكسب هذا التحدي الذي تعتقد أنه يوفر أسرع وأبسط وأرخص طريق لقوة الاندماج مع إمكانية التطبيق الصناعي المربح. وهذا يعني أنه بدلا من استخدام أشعة الليزر أو المغناطيسات المعقدة والمكلفة لتوليد ظروف الاندماج أو الحفاظ عليها، فإن نهج فيرست لايت يقوم على ضغط الوقود في مكعب يعد هدفا لقذيفة تتحرك بسرعة هائلة.
ولتحقيق نتيجة الاندماج هذه استخدمت فيرست لايت مدفعها الغازي الكبير فائق السرعة لإطلاق قذيفة على هدف يحتوي على وقود الاندماج. ووصلت سرعة المقذوف إلى 6.5 كيلومتر في الثانية قبل الاصطدام. ويركز هدف فيرست لايت المتطور للغاية على هذا التأثير، حيث يتم تسريع الوقود إلى أكثر من 70 كيلومترا في الثانية قبل تحقيق التصادم مما يؤدي إلى توفير ظروف الاندماج. وتعد زيادة السرعة التي تم تحقيقها من خلال الابتكار في تصميم الهدف شيئا قياسيا إذ تجعل الهدف أسرع جسم متحرك على الأرض في تلك المرحلة.
ويتضمن تصميم محطة توليد الطاقة في فيرست لايت إسقاط الهدف في غرفة التفاعل وإطلاق المقذوف لأسفل من نفس المدخل، بحيث يلحق بالهدف ويصيبه على اليمين.
ويتم تركيز التأثير وتضخيمه بواسطة تقنية الهدف المتقدمة لفيرست لايت، ويتم إطلاق نبضة من طاقة الاندماج. ويكون امتصاص هذه الطاقة من خلال تدفق الليثيوم داخل الحجرة، مما يؤدي إلى تسخينه. ويحمي السائل المتدفق حجرة التفاعل من إطلاق الطاقة الهائل، متجنبا بعضا من أصعب المشاكل الهندسية في مناهج الاندماج الأخرى. ثم ينقل المبادل الحراري حرارة الليثيوم إلى الماء، ويولد بخارا يدير التوربين وينتج الكهرباء.
وتعتبر معدات فيرست لايت بسيطة نسبيا، حيث كان تصنيع جزء كبير منها من مكونات متوفرة بسهولة. وتعتقد فيرست لايت أن هذا النهج يسرّع الرحلة نحو طاقة الاندماج لتصبح ممكنة تجاريا حيث يتوفر قدر كبير من الفهم الهندسي والأدوات التقنية مما يمكّن من إعادة استخدامها لتحقيق تصميم محطة توليد الطاقة المقترحة.
"اندماج المقذوفات" يوفر فرصة لاندماج نووي فعال من دون المخاطر التقليدية المصاحبة
ومع هذا النهج الأبسط الذي يعيد استخدام التكنولوجيا الحالية، يُظهر التحليل الذي أجرته شركة فيرست لايت أن اندماج المقذوفات يوفر مسار تكلفة للطاقة تقل عن 50 دولارا/ميغاوات في الساعة، وتتنافس مباشرة على التكلفة مع الطاقة المتجددة. وهذا من شأنه أن يجعله المصدر الأكثر تنافسية من حيث التكلفة بالمقارنة مع كلفة التشييد والتشغيل التقليدية لمحطات الطاقة المتجددة.
وسيمكن نهج فيرست لايت، الذي يتمحور حول تطوير التصميم المستهدف، أيضا من متابعة نموذج تصنيع شامل للأهداف نفسها، حيث ستشارك مع مشغلي محطات الطاقة وتصبح مزودا للوقود في شكل أهداف هي مصدر الوقود الاندماجي.
وتعتقد شركة فيرست لايت أن هذا التركيز يقدم نقطة اختلاف مهمة أخرى حيث تعرض الفوائد البيئية والتجارية لأسلوب طاقة الاندماج هذه.
ودعيت هيئة الطاقة الذرية في المملكة المتحدة لتحليل نتائج اندماج فيرست لايت والتحقق من صحتها قبل الإعلان عنها رسميا. وتضمنت العملية نمذجة مستقلة لتكوين الكاشف والاستجابة له، ومراجعة جميع بيانات المعايرة لكلا النوعين من كاشف النيوترون المستخدم، ومراجعة المعالجة والتحليل الإحصائي للبيانات، والوصول المادي الكامل إلى جميع معدات الكشف للفحص العملي. واستمر هذا أكثر من ثلاثة أشهر.
وقالت هيئة الطاقة الذرية البريطانية إنها تستطيع تأكيد أن فيرست لايت قد أنتجت نيوترونات متوافقة مع تلك الناتجة عن اندماج وقود الديتيريوم.
الخطوات التالية
تتقدم خطط التجربة بخطى سريعة. وتتوقع فيرست لايت الدخول في شراكة مع منتجي الطاقة البريطانيين الكبار لتطوير محطة تجريبية باستخدام نهج الاندماج الفريد الخاص بها. وتعمل فيرست لايت على إنشاء مصنع تجريبي بطاقة 150 ميغاوات من الكهرباء وبتكلفة أقل من مليار دولار في ثلاثينات القرن الحالي. كما تعمل مع بنك يو بي إس الاستثماري لاستكشاف الخيارات الاستراتيجية للمرحلة التالية من تطورها العلمي والتجاري.
وقال الدكتور نيكولاس هوكر، المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة فيرست لايت، “يرتكز نهجنا في الاندماج النووي على البساطة. ونعتقد أن اندماج المقذوفات هو أسرع طريق لتوليد طاقة قابلة للتطبيق تجاريا من الاندماج. ونهدف إلى البساطة في هندسة محطات الطاقة، لكننا نريد أن نجعل عملية الاندماج نفسها بسيطة قدر الإمكان. غير أن التكنولوجيا الرئيسية هي تصميماتنا المستهدفة. فهذه الأشياء معقدة للغاية، لكن قوانين الفيزياء التي استندنا عليها تعد أبسط من أساليب الاندماج الأخرى، ويمكن فهمها والحكم عليها بدقة”.
وأضاف “بهذه النتيجة أثبتنا طريقتنا الجديدة للاندماج الذي يعمل بالقصور الذاتي، والأهم من ذلك أننا أثبتنا عملية التصميم لدينا. لكن التصميم المستخدم لتحقيق هذه النتيجة قديم بالفعل. وبمجرد أن نصل إلى الحد الأقصى بفكرة واحدة، فإننا نخترع الفكرة التالية، وتلك الرحلة الاستكشافية المذهلة مثيرة جدا”.
وقال البروفيسور يانيس فينتيكوس فرينغ، رئيس قسم الهندسة الميكانيكية بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس والمؤسس المشارك لشركة فيرست لايت، “في حين أن تحقيق الاندماج في المختبر يعد نجاحا هائلا في حد ذاته، يبقى السياق مهما بنفس القدر. ووفقا لنهج الشركة العلمي الصارم، فإن هذه النتيجة مدعومة بنمذجة حاسوبية قوية ومتطورة باستمرار.
وتسلّط هذه القدرة الضوء، بتفاصيل رائعة، على العمليات التي تولد هذه النيوترونات. ويستخدم علماء فيرست لايت هذه الأدوات يوميا، مما يساعد في تصميم أهداف فريدة والتنقل في المسار الصعب نحو المفاعل الأول من نوعه. وسيمنحنا هذا السعي العملي الاندماج ميسور التكلفة والطاقة النظيفة التي نحتاجها بشدة في جهودنا لمعالجة ظاهرة الاحتباس الحراري وعكس مسارها”.
وقال بارت ماركوس، مدير فيرست لايت، “من خلال التركيز على نهج الاندماج الذي يكون أبسط وأرخص من التقنيات الأخرى، نعتقد أننا حددنا طريقا حقيقيا للاندماج التجاري، بهدف تلبية الأهداف العلمية الحيوية، ولتطوير نموذج عمل مستدام. وتتيح تقنيتنا الفريدة المستهدفة نموذج عمل يعتمد على المواد الاستهلاكية، مما يميزنا عن جميع تقنيات الاندماج الأخرى. لكن تركيزنا على الأعمال النموذجية مهم بنفس القدر: يجب أن يُظهر الاندماج أنه أكثر من مجرد تجربة علمية باهظة الثمن، ولكنه يمكن أن يكون حلا تجاريا لتحدي إنتاج الطاقة النظيفة الأساسية”.
وقال إيان تشابمان، الرئيس التنفيذي لشركة هيئة الطاقة الذرية البريطانية، “يعد الاندماج النووي بأن يكون جزءا آمنا ومنخفض الكربون ومستداما من إمدادات الطاقة المستقبلية في العالم، ونحن ندعم جميع التطورات في هذا التحدي العلمي والهندسي الكبير. تعتبر هذه النتائج خطوة أخرى مهمة إلى الأمام، ونحن معجبون بضمان فيرست لايت لتحليل مستقل لنتائجها”.
حقائق عن الاندماج
- أظهر مشروع فيرست لايت أنه الأسرع في التفكير والتنفيذ لأي مشروع في تاريخ الاندماج النووي.
- يعدّ عدد النيوترونات المنتجة من كل عملية تصادم بين المقذوف والهدف منخفضا (حوالي 50 نيوترونًا). ومع ذلك، فإن هذا يطابق العائد المتوقع تماما.
- تبلغ سرعة المقذوف 6.5 كيلومتر في الثانية.
- ينفجر الوقود بسرعة تزيد عن 70 كيلومترا في الثانية.
- يصل ضغط الوقود إلى 10 تيراباسكال، أي أعلى من الضغط في مركز المشتري.
- يبلغ حجم كبسولة الوقود داخل الهدف بضعة مليمترات.
- يُضغط الوقود عندما يندمج إلى أقل من 100 ميكرون، أي أقل من سماكة شعرة الإنسان.
- تتكرر العملية كل 30 ثانية في محطة توليد الكهرباء.
- في محطة توليد الكهرباء، سيطلق كل هدف طاقة كافية لتشغيل منزل عادي في المملكة المتحدة لأكثر من عامين.
الحاجة إلى الاندماج
من المتوقع أن يتضاعف الطلب العالمي على الطاقة بحلول 2040 ويمكن أن يزيد بمقدار خمسة أضعاف بحلول 2060 عندما تتيح التقنيات الجديدة كهربة مجموعة واسعة من التطبيقات، وهي مهمة بشكل خاص في وقت يتسم بانعدام الأمن العالمي المستمر للطاقة وفي السياق الأوسع لتحقيق أهداف صافي الصفر الحرجة كجزء من الجهود الجماعية للتصدي لتغير المناخ.
خلص بحث أجري بتكليف من شركة فيرست لايت إلى أنه يمكن توليد 19.900 تيراواط ساعة سنويا من طاقة الرياح والطاقة الشمسية على مستوى العالم بحلول 2040. وهذا يمثل زيادة بمقدار 8 أضعاف عن اليوم ولكنه لا يزال أقل من نصف المتطلبات المتوقعة.
في حين أن النشر السريع والأقصى للطاقة المتجددة هو المفتاح لتحقيق هدف باريس 2050 (التخفيف من تأثير تغير المناخ)، لن تتمكن طاقة الرياح والطاقة الشمسية وحدهما في العديد من مناطق العالم من تلبية الطلب المتوقع على الطاقة، لذلك ستُطلق سوق عالمية كبيرة للطاقة النظيفة الأساسية لاستكمال مصادر الطاقة المتجددة، وهذا هو المكان الذي ستلعب فيه طاقة الاندماج دورا رئيسيا.