الصين تخطط للهيمنة على التكنولوجيا العالمية

واشنطن - صرح الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال المؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في أكتوبر الماضي بأنه يجب أن تكون الصين “رائدة عالميا في الابتكار” بحلول عام 2035.
وتعكس تصريحات شي طموحًا استراتيجيًا أساسيًا للهيمنة على التكنولوجيا العالمية فبعد عقود من الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية، لا تطمح الصين إلى مواكبة التطور التكنولوجي في الغرب فحسب، بل تطمح إلى أن تتخطاه أيضًا – من خلال استراتيجية وطنية للتنمية “المبنية على الابتكار”، التي تهدف إلى تحقيق اكتفاء ذاتي على الصعيد التكنولوجي.
هذا الطموح الصيني ليس بمنأى عن التصعيد الأميركي المتواصل ضدها والحرب التجارية الدائرة بين القوتين الاقتصاديتين الأوليين في العالم بعد أن فرضت إدارة دونالد ترامب رسوما إضافية على سلع صينية بقيمة 250 مليار دولار، ردت عليها الصين بإجراءات مماثلة، بل بات السباق على الريادة التكنولوجية محور النزاع بين الطرفين.
وسيكون مسار الصين في مجال العلوم الكمية – والذي يدعم مبادئ ميكانيكا الكم لإنتاج تقنيات مدمرة وربما تحويلية – بمثابة اختبار رئيسي لطموحات شي، وسيسمح تطورها في هذا المجال الرد على ترامب الذي أكد أنه مستعد لإيلام الصين اقتصاديا بشكل أكبر وأن الرئيسين السابقين باراك أوباما وجورج دبليو بوش “سمحا للصين بالخروج عن السيطرة”.
تستكمل الصين حاليا مشاريع توسيع البنية التحتية الوطنية للاتصالات الكمية، والتي يمكن أن تعزز أمن المعلومات، وقد سجل العلماء الصينيون سجلات عالمية جديدة في مجال التشابك متعدد الجسيمات
وستكون للمعركة التكنولوجية بين واشنطن وبكين تداعيات على النظام العالمي أمام إصرار الصين على إنهاء عصر القيادة الأميركية للعالم، ليسود العالم نظام متعدد الأقطاب بفضل التقدم التكنولوجي والاقتصادي الذي تحققه يوما بعد يوم.
لكن التنافس الأميركي الصيني يثير قلق أوروبا باعتباره تخطى النزاع التجاري ليشمل التكنولوجيا والذكاء الصناعي، وقد طالبت وزيرة الدفاع الألمانية أورزولا فون دير لاين الصين بمشاركة مسؤولة في نظام دولي قائم على قواعد، وذلك في خطابها بجامعة الدفاع الوطني في بكين، كما حذرت فون دير لاين من السياسات المنفردة وسياسة العزلة، دون ذكر اسم الرئيس الأميركي دونالد ترامب وسياسته “أميركا أولا” على نحو مباشر، وقالت: “هناك في الوقت الراهن أسوار تعوق النمو والرخاء”، مضيفة أن “الصين نجحت في تحرير الملايين من الفقر وتحقيق الرخاء لهم بدون انتهاج سياسة العزلة، بل عبر الانفتاح والانخراط في الاقتصاد العالمي”.
تكنولوجيا الكم
تسعى بكين جاهدة لأن تصبح رائدة على مستوى العالم في مجال التكنولوجيا الكمية من خلال الاستثمارات الحكومية واسعة النطاق، التي قد تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات في السنوات القادمة.
وفي إطار خطتها الخماسية الثالثة عشرة، التي تم إطلاقها في عام 2016، أطلقت الصين “مشروعًا ضخمًا” للاتصالات والحوسبة الكمية، يهدف إلى تحقيق اكتشافات كبيرة في هذه التقنيات بحلول عام 2030، بما في ذلك توسيع البنية التحتية للاتصالات الكمية الوطنية في الصين، وتطوير نموذج الحاسوب الكمي، وبناء محاكاة الكم العملية.
كما تقوم الصين ببناء المختبر الوطني لعلوم الكم، والذي يمكن أن يكون، في ظل وجود تمويل أولي يزيد عن 1 مليار دولار، مركزاً رئيسياً لجذب البحث والتطوير المستقبلي.
وأمام هذا المخطط الصيني الذي يشير إلى أن مستقبل البلد سيقوم على علوم الكم تتساءل الباحثة في مركز الأمن الأميركي الجديد، إلسا كانيا في تقرير على مجلة فورين أفيرز الأميركية “هل ستستطيع الصين النجاح في ريادة التقدم في هذا المجال أم لا”.
على ما يبدو حققت الصين بعض النجاح في تطوير أسلحة تفوق سرعة الصوت، ولكنها لم تشهد سوى تقدم محدود في أشباه الموصلات.
ومع ذلك، من الواضح أن الصين في عهد الرئيس شي جين بينغ، راغبة في وضع رهانات كبيرة على التقنيات المدمرة. وعلى الرغم من المخاطرة في هذا المجال، إلا أن المكاسب المحتملة هائلة: فإذا نجحت المحاولات، فإن سعي الصين إلى قيادة مجال العلوم الكمية قد يساعد على إعاقة توازن القوى بين بكين وواشنطن.
ويعد ظهور تكنولوجيا الكم بظهور طفرات كبيرة إلى الأمام في عدد من المجالات المهمة. فعلى سبيل المثال في مجال الحوسبة: حيث حين تعتمد أجهزة الكمبيوتر التقليدية على وحدات البت – المشفرة على شكل صفر أو واحد – تعتمد حواسيب الكم على وحدات “الكيو بت” أو البت الكمي، التي تستخدم الظاهرة المعروفة باسم التراكب لتشفير المعلومات على أنها صفر وواحد في وقت واحد، مما يسمح بزيادة قوة مجال الحوسبة الذي يمكن تطبيقه على مجالات مثل التعلم الآلي والمحاكاة المعقدة.
ويمكن لعلم الكم أيضاً أن يحدث ثورة في التشفير والاتصال: حيث يمكن للحواسيب الكمية أن تكسر أكثر أشكال التشفير رواجا، والتي تعتمد على الصعوبة الحسابية في التحليل الأولي للعوامل، في حين أن التشفير الكمي، الذي يستغل الخصائص الكمية لتحقيق عامل الأمان، يمكن أن يصعّب مهمة فك تشفير المعلومات.
وفي الوقت نفسه، قد يؤدي التقدم في مجال الاستشعار الكمي، والقياس، والانتقال إلى تمكين قدرات فريدة في الكشف والدقة وتحديد المواقع.
وبدأ استثمار بكين في تكنولوجيا الكم بالفعل في تحقيق بعض النتائج. ففي عام 2016، أطلقت الصين أول قمر صناعي كمي في العالم، والذي تم استخدامه منذ ذلك الحين لإجراء مكالمة فيديو مشفرة كمياً بين الصين وأوروبا. وتستكمل الصين حاليا مشاريع توسيع البنية التحتية الوطنية للاتصالات الكمية، والتي يمكن أن تعزز أمن المعلومات.
وقد سجل العلماء الصينيون سجلات عالمية جديدة في مجال التشابك متعدد الجسيمات، وهو معيار رئيسي لقياس التقدم في مجال الحوسبة الكمية. كما أن شركات التكنولوجيا العملاقة في الصين – مثل شركتي “علي بابا” و”بايدو” – تستثمر بكثافة في مبادراتها الكمّية. والجدير بالذكر أن شركة “علي بابا” أطلقت خدمات الحوسبة الكمية عبر منصة سحابية تعتمد على معالج كمي قدرته 11 كيوبت.
تأمين الاتصالات العسكرية
أبدى الجيش الصيني وصناعة الدفاع الصينية، اهتماما شديدا، بالتكنولوجيا الكمية. وقد يأمل جيش التحرير الشعبي الصيني في استخدام التقدم في مجال الرادار الكمي والاستشعار لتعويض تفوق الجيش الأميركي في تكنولوجيا التخفي التي قد تكون عرضة لهذا النوع الجديد من الاكتشاف.
ويبحث أسطول جيش التحرير الشعبي الصيني عن تطوير بوصلة كمية لغواصاته التي ستمكنها من التنقل دون مساعدة نظام “بايدو” (النظير الصيني لنظام التعقب “جي.بي.أس”)، مما يتيح الاستقلال عن الأنظمة الفضائية التي يمكن اختراقها في سيناريو الصراع المحتمل.
بالإضافة إلى ذلك يمكن للتشفير الكمي أن يمنح الصين ميزة في تأمين الاتصالات العسكرية. وعلى الرغم من أن الأبحاث الصينية في هذا المجال مازلت مبهمة، إلا أن هناك مؤشرات أولية للتقدم، بما في ذلك تقارير عن تصميم نموذج رادار كمي ناجح. وإذا نجحت هذه الجهود، يمكن للصين أن تتقدم على الولايات المتحدة في هذا المجال من التكنولوجيا العسكرية.
ولكن بقدر ما تبدو هذه التكنولوجيات جاذبة – مثلما تفعل التكنولوجيا الكمية في كثير من الأحيان – فإن الحماس لقدراتها يمكن أن يتخطى الواقع. لذلك، يجب أن تؤخذ الصين على محمل الجد في مجال العلوم الكمية ولكن لا يجب المبالغة في الأمر، وذلك بسبب التحديات التي لا تزال قائمة.
ولا يزال من غير الواضح، على سبيل المثال، ما إذا كان تنفيذ التشفير الكمي والاتصالات على نطاق واسع سيعزز الأمن بما يكفي لتبرير استثمارات الصين.
ويبدو الوعد بالحصول على الأمن الكامل من خلال استغلال تكنولوجيا التشفير الكمي المزعومة “غير القابلة للاختراق” وهميا، بالنظر إلى نقاط الضعف المحتملة والتحديات الهندسية المتبقية.
ومن السابق لأوانه أيضاً القول ما إذا كانت الصين ستفوز بالسباق لتطوير مجال الحوسبة الكمية. فالتفوق في مجال التكنولوجيا الكمية – وهي النقطة التي يمكن أن يتفوق فيها جهاز الكمبيوتر الكمي على جهاز الكمبيوتر التقليدي – قد يلوح الآن في الأفق بشكل فعلي، ومع ذلك فإن تطوير جهاز كمبيوتر كمي وتشغيله بالكامل قد يتطلب عقودًا من الزمن.
وسيكون التقدم المستقبلي في مجال الحوسبة الكمية مبنيّ على سباق جري، وسيتطلب سنوات من الالتزام والاستثمار المستدامين. كما سيكون هناك تحديات كبيرة في المستقبل، بدءاً من البنود الأساسية لتصحيح الخطأ (بسبب هشاشة نظام كيوبت ومشاكل فك الترابط) إلى تطوير خوارزميات الكم وبرامج جديدة.
ومع وجود العديد من المسارات المحتملة إلى الحوسبة الكمية – بما في ذلك استخدام الأيونات المحتبسة والوصلات الفائقة التوصيل والكيوبتس الطوبولوجية – فإن مستقبل هذه التكنولوجيا لا يزال مفتوحًا على مصراعيه وعرضة لكل الاحتمالات.
وكان يُنظر إلى الصين في السابق باعتبارها نموذجاً يحاكي الثقافات من حولها، لكنها الآن تتحدى القيادة الأميركية في التقنيات الناشئة التي يمكن أن تصبح جزءا لا يتجزأ من القوة الوطنية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت في طليعة تكنولوجيا العلوم الكمية، فقد واجهت بيئة الابتكار في الولايات المتحدة بعض العوائق التي تتراوح بين عدم كفاية الاستثمار ونقص العمالة الماهرة.
ويؤكد بروز الصين كمنافس جاد في علوم الكم على ضرورة أن تتخذ الولايات المتحدة خطوات للحفاظ على قدرتها التنافسية. وفي الآونة الأخيرة، بدأت بالفعل في القيام بذلك. حيث أصدر مجلس النواب الأميركي مؤخرا قانون مبادرة الكم الوطني، الذي يدعو إلى إنشاء مراكز أبحاث علوم الكم الوطنية في وزارة الطاقة.
واشنطن وتحدي المنافسة
عقد البيت الأبيض مؤتمراً كمياً مع كبار رجال الأعمال، في أكتوبر الماضي، وأطلق نظرة عامة حول استراتيجية وطنية جديدة لعلم الكم. وخلال القمة، أعلنت المؤسسة الوطنية للعلوم ووزارة الطاقة عن توفير المزيد من الدعم والتمويل لمجال البحث الكمي.
هذه المبادرات الأخيرة تعتبر بداية جيدة لمواجهة المنافسة الصينية الشرسة، لكن تأثيرها سيعتمد على طريقة التنفيذ. وعلى وجه الخصوص، يجب على الولايات المتحدة أن تزيد من دعمها للبحث في مجال علوم الكم وتطويرها على المدى الطويل، مع الاستمرار في تثقيف الطلاب والعلماء الموهوبين وجذبهم والاحتفاظ بهم.
وعلى واشنطن الاستمرار في تقديم خيارات للشراكات بين القطاعين العام والخاص ومتابعة التعاون الأعمق مع الحلفاء والشركاء. كما يجب على الولايات المتحدة أن تستعد للانتقال إلى مرحلة ما بعد التشفير الكمي عبر نظامها الإيكولوجي لتكنولوجيا المعلومات، نظرا للتهديد الذي تمثله الحواسيب الكمية المستقبلية على تكنولوجيا التشفير الحالية.
وفي حين أن الثورة الكمية الأولى –التي ظهرت في أوائل القرن العشرين – كشفت أسرارًا جديدة حول طبيعة الواقع آنذاك تعتقد إلسا كانيا أن “العالم يشهد ثورة كمية ثانية، حيث يتم تطبيق النظرية لتطوير تقنيات تحويلية”. وفي حين أن هناك أبحاثا متعددة متعلقة بالمجال تجري في جميع أنحاء العالم مثل روسيا التي تسعى بدورها إلى اقتحام تكنولوجيا الكم، لكن من الواضح أن الصين والولايات المتحدة تشتركان في طموح القيادة العالمية، وربما حتى للهيمنة، على مجال العلوم والتكنولوجيا الكمية.
الصين وضعت الابتكار التكنولوجي على رأس أولوياتها حيث تطمح للهيمنة على التكنولوجيا العالمية عبر علوم الكم
وتستنتج كانيا “أن مستقبل هذا التنافس الكبير سيشكله مسار الدولتين نحو التقنيات الحديثة الناشئة – ولا سيما الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية، التي قد تكون بالغة الأهمية لتنافسهما الاقتصادي في المستقبل وقوتهما العسكرية”. وخلصت بقولها إن “طموحات شي لريادة الصين في مجال الابتكار هي جزء لا يتجزأ من ‘حلمه الصيني’، وبالتالي تتحدى هذه الطموحات نظاما دوليا طالما كانت الولايات المتحدة مهيمنة عليه”.
وكانت مجلة “ناشيونال إنترست” الأميركية قد كتبت في فبراير الماضي أن الصين بدأت تستخدم الاستراتيجية التي كتب عنها القائد العسكري الصيني المشهور “سون زي” منذ 2500 عام.
ونقلت المجلة عن البحث الذي أجرته شركة “رند كوربوريشن” أنّ هذه الاستراتيجية تعتمد على تحقيق “الانتصار في الحرب دون المشاركة في المعركة”.
ويشير الخبراء إلى أنّ السياسة الخارجية التي تمارسها الصين حالياً ليست سلمية وتهدف إلى تحقيق الزعامة العالمية لكن بأساليب جديدة.
واختارت الصين 120 عالماً في مجال الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الكم للعمل على إنتاج أنواع جديدة من الأسلحة وفق ما نقلته وسائل إعلام. وعن طريق السلاح التكنولوجي تأمل الصين بتحقيق التكافؤ العسكري مع الولايات المتحدة في المستقبل القريب.