الصين أصبحت مرابي العالم

بكين قوة إقراض أغرقت الدول الفقيرة في الديون.
الجمعة 2023/05/19
بكين تغري الدول النامية بالقروض

في عالم تسيطر عليه الفوضى الاقتصادية جراء الأزمات المتتالية، أصبحت الصين مصدرا لفوضى جديدة تزيد التحديات أمام الدول والمقرضين الكبار؛ فبعد أن أقرضت بكين العديد من الدول صارت اليوم تطالب منافسيها من الدائنين بتحمّل الخسائر وعدم المطالبة بالديون، وهو ما يتعارض مع مساعي إعادة هيكلة الديون ويقود العالم نحو عواقب وخيمة.

واشنطن - بينما كانت الدول العظمى منشغلة بالحروب والنزاعات، انشغلت الصين لسنوات بتوسيع نفوذها عالميا عبر تحركات هادئة ومدروسة جعلتها تسيطر على أغلب الاقتصادات، فقد تجاوزت خلال العقد الماضي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وأصبحت أكبر دائن في العالم بتقديم قروض بلغت مئات المليارات من الدولارات.

وترى المحللة كريستينا لو في مقال لمجلة “فورين بوليسي” أنه “لم تنجح أي دولة في تعطيل النظام الحالي كما فعلت الصين في عالم تسوده فوضى تمويل التنمية الدولية”. 

وتضيف أن “لبكين الآن مفاتيح السيارة لأول مرة. لكن المشكلة هي أن السيارة تعطّلها كتل ولا يعمل المفتاح بالفعل. وتبين أن مقامرة الصين بدبلوماسية دفتر الشيكات كانت مختلفة قليلا عما توقّعته”.

عدنان مزاري: الصين لاعب جديد لا يمكن إخضاعه لقواعد محددة
عدنان مزاري: الصين لاعب جديد لا يمكن إخضاعه لقواعد محددة

تاريخيا عصفت مشاكل الديون بالحكومات لعدة قرون. وعانت إسبانيا تحت حكم هابسبورغ على سبيل المثال من مشاكل هيكلية متعددة. ووجدت عدة دول مهربا صغيرا بفضل ظهور البنوك الوطنية. كان ذلك أولا في القرن السابع عشر في هولندا ثم في إنجلترا. ولكن العالم لم يجد ملاذا أخيرا سوى بعد الحرب العالمية الثانية. 

وبدلا من اللجوء إلى المقرضين الخاصين الأثرياء، سعت الحكومات المثقلة بالديون على مدى عقود من الزمن لنيل المساعدة من نادي باريس غير الرسمي المكوّن من الدائنين الرئيسيين، إلى جانب مؤسسات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي متعددة الأطراف التي فتحت أبوابها بعد الحرب. ولم تنضم الصين إلى تلك المجموعات، لكنها تتفوق عليها اليوم.

ويقلب ظهور بكين كقوة إقراض رئيسية النظام المألوف، مما يجبر الجميع على الإبحار في مشهد متغير يتجنب قواعد اللعبة القديمة والمألوفة. وفضلت الصين اتباع معايير مختلفة في الإقراض ونهجا ثنائيا لإعادة التفاوض بشأن الديون بما يتعارض مع إطار العمل المنسق الذي تبناه نادي باريس الذي فشلت جهوده المبذولة لإدماج الصين، حيث رفضت بكين عروض الانضمام إلى المجموعة بينما كانت تشكك في المعايير التي قامت عليها ممارسات إعادة هيكلة الديون الدولية.

وقال نائب المدير السابق في صندوق النقد الدولي عدنان مزاري، الذي يعمل الآن في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، إن “العالم تغير ويوجد لاعب عملاق جديد يسمى الصين. لا يمكنك إخبار لاعب جديد بهذا الحجم أن عليه اللعب وفقا لقواعد محددة أو يغادر”.

وظهر نادي باريس إثر الحرب العالمية الثانية وجمع الدائنين الغربيين الذين لعبوا منذ فترة طويلة دورا مؤثرا في الإقراض العالمي ويمكنهم أن يستجيبوا بشكل جماعي لدعوات البلدان التي تعاني من ضائقة مالية لتخفيف ديونها. واتخذت المجموعة في العقود التي تلت ذلك إجراءات بشأن مئات الطلبات بالتنسيق مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. لكن صعود الصين الاقتصادي تحدى تلك الهيمنة. وقدمت بكين مئات المليارات من الدولارات في شكل قروض منذ 2013، أي منذ إطلاق مبادرة الحزام والطريق الهادفة إلى تطوير البنية التحتية لتصدير الفائض الصناعي وتوسيع نفوذ بكين العالمي.

لكن المشهد العالمي لم يتغير بسهولة. وقال الأستاذ في جامعة كورنيل والرئيس السابق لقسم الشؤون الصينية في صندوق النقد إسوار براساد “كان هناك افتراض أن هذه الدول ستنضم إلى الصين في القضايا الجيوسياسية، وتمكنها من تحقيق عائد جيد بينما كانت تؤسس مجموعة أقوى من التحالفات الجيوسياسية. لكن هذا لم يثمر”.

وقلصت الصين إقراضها منذ ذلك الحين. لكن عواقب سنوات من صفقاتها المحفوفة بالمخاطر والمشكوك فيها اقتصاديا أصبحت ملموسة. ولجأت بكين بسبب فشل المقترضين في السداد إلى تقديم أكثر من 230 مليار دولار في شكل قروض طارئة، فيما كان انعكاسا للضغوط المتزايدة التي تواجهها لاسترداد أموالها والحفاظ على النوايا الحسنة التي حاولت بناءها من خلال مبادرة الحزام والطريق.

كريستينا لو: الصين نجحت في تعطيل النظام العالمي بفوضى التمويل
كريستينا لو: الصين نجحت في تعطيل النظام العالمي بفوضى التمويل

والجدير بالذكر أن الصين أمضت خمسينات وستينات القرن العشرين وهي تحاول إغراء العالم النامي. ولم تفتح محفظتها بشكل جدي إلا في الآونة الأخيرة. وقال سكوت موريس، وهو زميل بارز في مركز التنمية العالمية ومسؤول سابق في وزارة الخزانة الأميركية، إن هذه قد تكون “لحظة غير مسبوقة حقا. لست متأكدا من وجود فترة من الزمن كانت فيها أي حكومة كبيرة مثل الصين اليوم تشهد ديناميكيات الديون هذه”.

وتكمن المشكلة في أن الكثير من البلدان التي تقرضها الصين مفلسة. وعرضت سريلانكا ميناءً رئيسيا و100 ألف قرد مهدد بالانقراض للحفاظ على صبر الصينيين. ولئن كانت بكين في حاجة إلى التعامل بالكثير من الحزم فإن البلدان التي تراهن عليها عاجزة عن مدّها بالبضائع التي تحتاج إليها. ومع تزايد عدد البلدان التي تضغط الآن من أجل تخفيف عبء الديون، تصبح القضية الرئيسية المطروحة اليوم هي من يتحمل عبء الخسائر. وتُصرّ الصين على أنه إذا كانت هي تتكبد خسائر، فينبغي على المقرضين متعددي الأطراف أن يفعلوا الشيء نفسه، وهو ما يتعارض مع مسار إعادة هيكلة الديون العالمية التقليدي.

وقال مدير برنامج الصين في مركز ستيمسون، يون صن، إنه “صراع حول من يستحق المعاناة أكثر”.

ويتمثل أحد الجهود الرئيسية في الإطار المشترك لمجموعة العشرين لمعالجات الديون، وهي مبادرة من شأنها أن تسمح لبكين والدائنين الآخرين بالعمل الجماعي في التعامل مع طلبات تخفيف الديون بينما تنهار البلدان تحت الضغوط الاقتصادية الوبائية. لكن التقدم كان ضئيلا بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات على بعث المبادرة.

وقال موريس “أمل الكثيرون في أن يكون الإطار المشترك هو الإطار الجديد لإعادة هيكلة الديون وتخفيف عبئها”، لأن بكين كانت على الطاولة. وأضاف أن غموض مبادئ إطار العمل ترك مجالا فسيحا للتأويل، و”لم تقدم في الحقيقة أي مخططات كاملة”.

وليست الصين مهيأة للرد على تحدي ديون بهذا النطاق. وقال برادلي باركس، المدير التنفيذي لمجموعة أبحاث “إييد داتا لاب” في كلية ويليام أند ماري، “على الرغم من أن بكين تتمتع بخبرة في إعادة جدولة الديون الثنائية، إلا أنها ليست معتادة على العمل مع الآخرين. وما يزيد تعقيد الأمور هو أن المفاوضات تتطلب نظاما مجزأ وغير منسق للبنوك الصينية والمؤسسات المالية والهيئات التنظيمية، ويسعى كل منها إلى تحقيق نتائج مختلفة”.

وذكر براساد أن “المسؤولين الصينيين قد يشعرون بالقلق أيضا من أن يُنظر إليهم على أنهم يقبلون حزمة صاغها المجتمع الدولي”.

وقال ماثيو مينجي، الخبير في الدبلوماسية الاقتصادية الصينية في مجموعة روديوم، “ليست المسألة جمع الصين مع العالم بل جمع المقرضين والمنظمين والمؤسسات الصينية معا”.

الصين

ويبدو أن الصين قد خففت مطالبها خلال الأسابيع الأخيرة في مواجهة الضغوط الاقتصادية والسياسية المتزايدة، وورد أنها تدرس خططا لوقف دعوة المقرضين متعددي الأطراف إلى تحمل الخسائر، وفقا لصحيفة وول ستريت جورنال.

وقال باركس “أعتقد أن من المؤلم مشاهدة دمج الصين اجتماعيا في مجموعة من القواعد والمعايير القديمة التي لم تكن معتادة عليها. نحن الآن نراقبها وهي بصدد إدراك سبب وجود القواعد والأعراف، وفي هذا نوع من البطء الشديد والمؤلم”.

وقالت كريستينا لو إن “الأزمات السابقة يمكن أن تقدم دروسا عما ينتظرنا في المستقبل حين تنتشر أزمات الديون. ففي الثمانينات من القرن الماضي، تسببت أعباء الديون التي طالت جميع أنحاء أميركا اللاتينية في حدوث تضخم مفرط ومؤلم دفع الملايين من الناس إلى براثن الفقر”. وقال عدنان مزاري إن “هناك مخاوف من أن البلدان المتضررة ستشهد أيضا سنوات عديدة من النمو المنخفض مثلما مرت أميركا اللاتينية بعقد صعب إثر أزمة ديون الثمانينات”.

وقالت كارمن راينهارت، وهي رئيسة الخبراء الاقتصاديين السابقة في مجموعة البنك الدولي والأستاذة في كلية كينيدي بجامعة هارفارد، “إذا وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، فإن المدينين هم الذين سيخسرون أكثر من غيرهم”. وأضافت “تتضاعف الخسائر التراكمية التي يتحملها هؤلاء المدينون كلما طالت المدة، وهم في الحقيقة أضعف البلدان. يسبب التأخير عواقب وخيمة جدا”.

 

• اقرأ أيضا:

         الغرب يدفع ثمن سياساته الخاطئة لصالح الصين وروسيا

7