الصيد بالقصبة هواية تمتد على سواحل المغرب

الصيد بالقصبة أو الصنارة هواية قديمة جدا تنتشر على سواحل المغرب المطلة على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي. وللصيادين معرفة خاصة بأسرار البحر، وتجارب متفردة لها صلة بمعدات الصيد وكيفية استعمالها بشكل جيد، ويعشقون خلق ألفة غريبة بينهم وبين الصنارة باعتبارها وسيلة للترفيه ومجابهة بعض تكاليف المعيشة.
سلا (المغرب) - ليس موحشا قط ولا مرادفا لذلك، بل هو منطلق ودليل على خير عميم. هذا ما يجمع عليه عدد من الصيادين بالقصبة الذين يؤثرون رميها ليلا، طمعا في كرم البحر الحاتمي.
وبشغف كبير يتوزع هؤلاء الصيادون على ساحل الأطلسي، في كل من الرباط وسلا، رغبا فيما تجود به عليهم صناراتهم التي نصبوها، وضمنوها طُعما لاستمالة سمك سيشكل في ما بعد وجبة دسمة، ليس فقط لتأثيث مائدة تتلمظ عليها الشفاه، بل لأن منهم من جعل هذا “النسك” من صميم برنامجه اليومي.
“الليل يساعد على تواجد عدد كبير من الأسماك، وبأنواع مختلفة”، كما يقول محمد فرجي، الصياد بالقصبة الذي نذر عقودا من حياته لهذه الهواية.
وأضاف “الليل عامل مساعد على تواجد أنواع من الأسماك تكون أكبر حجما، مقارنة مع تلك التي تتواجد صباحا”، مضيفا أن لليل خصوصيات صميمة به، تجعل الصياد بالقصبة “يستشعر السمك الذي يقبل على صيده، ولو في ليل بهيم”.
وأوضح أن الأمر يتعلق بـ”متعة يستشعرها فقط من تعلق فؤاده بهذه الهواية”، مشيرا إلى أن الخصوصية الرئيسية للصيد بالقصبة هي أن الصيد حي و”يضج بالحياة”، على النقيض من ذاك الذي يصطاد بالشبكة.
وأضاف أن المعدات المستعملة في عملية الصيد تطورت كثيرا، موضحا على سبيل المثال لا الحصر، أن القصبة المستعملة سابقا كانت بسيطة جدا، أما حاليا فقد خضعت لتحسينات عديدة جعلتها أكثر نجاعة.
وعدد فرجي منافع هذه الهواية وأجملها مثل الصبر والجلد والسكينة وصفاء الروح، كما أنها “تجعلك تحس دوما بالهدوء والطمأنينة”، معتبرا أنها “متعة لا ند لها”.
وبخصوص المصايد المبثوثة على طول الشريط الساحلي في كل من العدوتين (الرباط وسلا)، أبرز أنها تمتد من بوشوك بسلا إلى غاية الهرهورة، مشيرا إلى أن لكل مصيد اسما، على غرار “الشلايرة”، و”الهزازات”، و”بوخرباش”، إضافة إلى “المون”، و”عنق الجمل”، و”الحجر المكرض”.
“كل صياد يتعلق بمصيد دون سواه”، يسترسل فرجي في الحديث، مضيفا “فتجده يفرغ الجهد لبلوغه حتى وإن سار لمسافات طويلة، لأن كل مصيد يزخر بعينة من الأسماك، من قبيل ‘الشرغو’، و’الدرعي’، و’المعزة’، إضافة إلى ‘الصنور’، وغيرها من الأصناف التي تشكل مكونات طبق قد يدفع جوعا عارضا، في انتظار الإتيان بالغلة إلى المنزل” يحكي السي محمد والطرفة لا تكاد تفارقه.
وأوضح أن أنواع سمك سواحل شمال الأطلسي والواجهة المتوسطية، تختلف نوعا ما عن تلك التي يتم اصطيادها في سواحل الأقاليم الجنوبية للمملكة، على اعتبار أن أصنافا من الأسماك توطن تلك المناطق فقط دون سواها، مضيفا أن لكل حوت طعمه الخاص، ولكل سمك طعم يصطاد به أيضا، فسمك البوري مثلا يتم إغراؤه بالخبز، إضافة إلى أنواع أخرى من الطعم كـالدودة، و”القمرون”.
وخلص إلى أن الصيد بالقصبة يكون هواية في المقام الأول، قبل أن يصبح الهاوي محترفا مع مرور السنين، بل إن الهواية قد تصبح مهنة “دفعا لشظف العيش والفاقة، وكسبا للقوت اليومي بالنسبة للبعض”.
يقول محمد علي أكماش، الصياد الهاوي، “نتواجد في شاطئ لاساركا، جنوب مدينة الداخلة، حيث يفضل العديد من المواطنين، من موظفين وكوادر ومستخدمين، خلال الأيام العادية ونهايات الأسبوع، ممارسة هذه الهواية المفضلة بالنسبة لهم، والتي تمنحهم نفسا جديدا لاستقبال أسبوع من العمل”.
إلا أن الأماكن الملائمة لممارسة الصيد بالقصبة في الداخلة وضواحيها تتركز، على الخصوص، في شواطئ خلابة مثل “بلايا لاخيرا” و”جرف لحمام” و”لاساركا” و”أم البوير” و”تمايا” و”العين البيضا”، والتي تزخر بأنواع متنوعة من الأسماك خاصة “الكوربين” و”اللولو” و”الشرغو” و”الحنبل” وغيرها.
ويقول محمد علي عن الصيد بالصنارة، هي تحارب تميل أكثر للعزلة والهدوء والتركيز، لكنها مليئة بالمغامرات والحكايات الطريفة التي يتذكرها هذا الصياد عن ظهر قلب، من بينها، كما قال، تناثر أمواج البحر أمامه بغتة، في يوم من الأيام، ضمن هجوم شرس عليه، بشكل أعاد سحب الأسماك التي اصطادها إلى عمق البحر.
ومن بين هذه الحكايات أيضا، فرحه الذي تحول فجأة إلى خيبة أمل، في يوم آخر، حين شعر باهتزاز كبير على مستوى القصبة، واعتقد في البداية أن الأمر يتعلق بصيد ثمين عبارة عن سمكة كبيرة، وحين استكمل عملية سحب الصنارة تفاجأ بوجود كيس أسود مليء بالماء عالق بالصنارة، وهو ما جعله ينخرط في ضحك هستيري على نفسه.
حال محمد علي يشبه حال عدد كبير من مرتادي البحر، الباحثين عن حياة مغايرة، تتوزع تارة بين المتعة وقضاء بعض الوقت جنب البحر، وتارة أخرى صيد بعض الأسماك لمواجهة تكاليف الحياة.
ويعتبر هذا الصياد أن استعمال القصبة أو الصنارة في الصيد ينطوي على الكثير من الدلالات التي لها صلة بالحياة الشخصية لكل إنسان وميوله، بيد أن القاسم المشترك فيها هو أنها تعلم الصبر في أبهى معانيه، بل تساهم في ممارسة الكتارسيس (الراحة النفسية)، وذلك من أجل التخلص من ضغوطات الحياة اليومية.
ولا يخفي محمد علي أن البحر يكون في الغالب سخيا معه، لكن ذلك يتطلب منه معرفة أسرار البحر وأوقات الصيد وأمكنته، وكيفية نصب الطعم على مستوى القصبة، بل حتى نوعية الطعم الذي يجذب الأسماك، لافتا إلى أن التدقيق في هذه الجزئيات مهم للغاية.