الصفوف الفارغة في المدارس اللبنانية تنبئ بتبعات طويلة للأزمة الاقتصادية

بيروت - أصبحت ثانوية رينيه معوض في بيروت خالية وفصولها الدراسية مظلمة مثل جميع المدارس الحكومية في لبنان خلال الأشهر الثلاثة الماضية. وكان أساتذتها المضربون يحتجون أمام وزارة التربية.
واجتمع نحو مئة مدرّس خارج الوزارة، وعطّلوا حركة المرور ورفعوا لافتات تطالب بزيادة الرواتب. وقالت نائبة نقابة المعلمين المتعاقدين نسرين شاهين “انتهينا من الصدقة. لم نعد نتفاوض. يجب أن يدفعوا لنا أو يعودوا إلى ديارهم”.
وألقى المعلمون خطابات يطالبون فيها المسؤولين بالخروج والتحدث معهم. لكن لم يظهر أحد من الوزارة مثلما جرت العادة في هذه الاحتجاجات المنتظمة. وعاد الأساتذة إلى منازلهم بعد عدة ساعات.
وتنهار المدارس اللبنانية تحت وطأة الأزمة الاقتصادية في البلاد. ولم تتمكن القيادة السياسية التي تسببت في الكارثة عبر عقود من الفساد وسوء الإدارة من اتخاذ أي إجراءات لحلها. وانزلق أكثر من ثلاثة أرباع سكان لبنان البالغ عددهم 6 ملايين نسمة إلى براثن الفقر منذ انطلاق الانهيار في أواخر 2019، وتبخرت أصولهم مع تقلص قيمة العملة وارتفاع التضخم ليصبح من أعلى المعدلات في العالم.
ولم يلتحق معظم أطفال لبنان بالمدارس منذ أشهر حتى قبل إضراب المعلمين الذين لم يعودوا قادرين على العيش على رواتبهم. واشتهرت البلاد ذات يوم بإنتاج قوة عاملة ذات مهارات عالية. ولكن جيلا بأكمله الآن ينقطع عن التعليم، مما يلحق أضرارا طويلة الأمد بآفاق اقتصاد البلاد ومستقبلها.
ودعا المعلمون إلى الإضراب لأن رواتبهم الممنوحة بالليرة اللبنانية أصبحت منخفضة لدرجة أنها لا تغطي الإيجار والنفقات الأساسية الأخرى. وانخفضت العملة من 1500 ليرة للدولار قبل الأزمة إلى 100 ألف اليوم. ويتلقى معظم الأساتذة الآن ما يعادل دولارا واحدا في الساعة، حتى بعد عدة زيادات منذ 2019. وعادة ما تختار متاجر البقالة والشركات الأخرى تسعير سلعها بالدولار.
ويطالب المعلمون برواتب معدّلة، ومنح مواصلات، ومزايا صحية. وعرضت الحكومة تغطية النقل، قائلة إنها لا تملك الميزانية الكافية لتوفير المزيد. واختار معظم المعلمين مواصلة الإضراب رغم إعادة فتح المدارس جزئيا الأسبوع الماضي بعد عودة بعضهم إلى مقاعد العمل.
وكان استثمار لبنان في المدارس الحكومية محدودا حتى قبل الأزمة. ولم يتخط إنفاق الحكومة على التعليم 1.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2020، ويعدّ هذا من أدنى المعدلات في العالم، وفقا للبنك الدولي.
وخصصت ميزانية 2022 للتعليم 3.6 تريليون ليرة لبنانية، أي ما يعادل حوالي 90 مليون دولار عند إقرار الميزانية في أكتوبر. لكن هذا يبقى أقل من نصف ميزانية التعليم البالغة 182 مليون دولار من برنامج إنساني ممول من المانحين.
واعتمدت الحكومة لسنوات على المدارس الخاصة والخيرية لتعليم الأطفال. وكافحت الوكالات الإنسانية لتغطية الرواتب والحفاظ على عمل البنية التحتية المتداعية. وزاول ثلثا الأطفال اللبنانيين تعليمهم في مدارس خاصة، لكن مئات الآلاف تركوا الدراسة في السنوات الأخيرة لأن هذه المؤسسات اضطرت إلى زيادة الرسوم الدراسية لتغطية التكاليف الباهظة. وتحاول المدارس الحكومية والخاصة الإبقاء على الأضواء داخل الفصول مع ارتفاع تكاليف الوقود.
وكان أكثر من 700 ألف طفل في لبنان (كثير منهم من اللاجئين السوريين) خارج المدرسة بسبب الأزمة الاقتصادية. وسجّلت اليونيسيف زيادة قدرها 500 ألف مع الإضراب.
وقالت إيتي هيغينز وهي نائبة ممثل اليونيسف في لبنان إن “هذا يعني أننا نرى الآن أطفالا تتراوح أعمارهم بين 10 و12 و14 عاما غير قادرين حتى على كتابة أسمائهم أو كتابة جمل أساسية”. وذكرت اليونيسف أنها قدمت الأسبوع الماضي ما يقرب من 14 مليون دولار لمساعدة أكثر من ألف مدرسة حكومية في دفع رواتب الموظفين.
وقالت رنا غالب، وهي أم لأربعة أطفال، إنها تشعر بالقلق عند رؤية أطفالها في المنزل عوضا عن المدرسة. واضطر ابنها البالغ من العمر 14 عاما إلى إعادة الصف السادس لأنه تخلف عن الركب أثناء الاضطرابات السابقة.
وأكّدت أن “الفصول الدراسية فارغة لأن المعلمين يطالبون بحقوقهم وهي مُظلمة بسبب عدم توفّر الوقود لشبكة الكهرباء”.
ويحثّ المجتمع الدولي قادة لبنان على تنفيذ إصلاحات واسعة النطاق في الاقتصاد والنظام المالي والحوكمة لتفعيل حزمة إنقاذ بقيمة 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي وإطلاق مساعدات التنمية. وعطّلت النخبة السياسية، التي تدير البلاد منذ 1990، الإصلاحات التي يقول المنتقدون إنها ستقوض قبضتهم على السلطة والثروة.
وليس للبنان رئيس وسط الجمود السياسي، ولا تتمتع الحكومة سوى بسلطة تصريف أعمال محدودة. وينضم قطاع التعليم أثناء ذلك إلى المصارف والطب والكهرباء في صفوف المؤسسات اللبنانية المتعثرة. ويمكن أن يسبب ذلك أضرارا طويلة الأجل، حيث تعتمد البلاد تقليديا على المغتربين المتعلمين في الخارج لإرسال التحويلات المالية إلى الوطن لدعم عائلاتهم، والاستثمار وتغذية النظام المصرفي بالدولار. وارتفعت موجة نزوح الأدمغة بشكل كبير خلال الأزمة الاقتصادية، مما جعل التحويلات المالية شريان حياة اقتصاديا أخيرا للبنان.
ويقول الخبير الاقتصادي حسين شعيتو وهو زميل غير مقيم في معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط ومقره واشنطن، إن تعطّل نظام التعليم سيزيد من “تدهور النسيج الاجتماعي” في لبنان ومن حدة الفقر.
وأضاف أن هذا سيؤثّر “على نمو الاقتصاد على المدى الطويل. هذا يعني وصولا أقل إلى الوظائف في المستقبل (…) وضعف سوق العمل بشكل عام”.
وراقبت غالب أطفالها الذين يشاهدون التلفزيون ويلعبون بهواتفهم المحمولة في الوقت الذي كان يجب أن يكونوا خلاله في المدرسة. وقالت إنها تدرك أن مستقبل ابنتها البالغة من العمر 9 سنوات في خطر.
وتابعت “أخبرتني ابنتي الصغرى أنها تريد أن تصبح طبيبة، وتساءلت كيف يمكن أن تحقق حلمها وهي جالسة في المنزل؟ لا أعرف ماذا أقول لها”.