الصراع بين تحريم فوائد البنوك وإباحتها يربك حسابات الحكومة المصرية

ترك تشتت الفتاوى الدينية بين مؤسسة الأزهر ودار الإفتاء المصرية الباب مفتوحا على مصراعيه أمام سهولة الترويج للفتاوى السلفية والإخوانية المتشددة في المجتمع المصري، حتى أنها صارت تعارض كل خطط السلطة السياسية وتوجهاتها للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية القاسية على المصريين، وذلك ما لمسته الحكومة في علاقة بخطتها الأخيرة لإطلاق شهادات ادّخار وبالمسائل البنكية عامة.
القاهرة - بلغت الخلافات في مصر مداها بين الفقهاء المؤيدين لإباحة فوائد البنوك، والمعارضين لتهافت الناس على البنوك لإيداع أموالهم نظير الحصول على أرباح عالية أعلن عنها البنك المركزي، وهو المسار الذي لجأت إليه الحكومة لإنقاذ الاقتصاد من عثراته، حيث وجهت البنوك لرفع سعر الفائدة لتستقبل المودعين وتوظيفها.
وأصبح الصراع المحتدم بين الفريقين حديث الرأي العام والإعلام في مصر، ووجدت الحكومة نفسها في مأزق جراء ارتفاع صوت التشدد الذي يقوده سلفيون على شبكات التواصل الاجتماعي في مواجهة المؤسسة الدينية الرسمية التي صارت تسعى بشتى الطرق لإقناع الناس بإباحة فوائد البنوك لدفعهم للتعامل معها.

عبدالغني هندي: الجدل لن ينتهي إلا بتوحيد فتاوى المؤسسة الدينية
وأطلقت بنوك حكومية رسمية شهادات ادخارية يصل عائدها إلى 18 في المئة بعد مشاورات جرت مع الحكومة لزيادة السيولة النقدية لديها كإحدى وسائل مواجهة تداعيات الأزمة الروسية - الأوكرانية وتخفيف انعكاساتها السلبية على الاقتصاد، حيث يتم توجيه أموال المواطنين لمشروعات مقابل فوائد عالية يتحصل عليها أصحاب الودائع.
وصارت كل فتوى تبيح فوائد البنوك تقابلها أخرى تطعن فيها وتؤكد التحريم، ما أثر على حجم الأموال المودعة في البنوك، في حين ترى الحكومة أن تعويض نقص الاستثمارات الأجنبية خلال الأزمة الحالي يحتاج لعوائد مالية بالبنوك لتقدمها للمستثمرين كي لا تتوقف عجلة التنمية، ولا بديل عن توافر السيولة النقدية بالبنوك.
ويرى مراقبون أن التخبط الحاصل بين مؤيدين ومعارضين لفوائد البنوك تتحمل الحكومة جزءا من مسؤوليته لأنها تراخت عبر سنوات طويلة في التدخل لوقف فوضى الفتاوى والسماح للتيار السلفي أن يتمدد ويصارع المؤسسات الرسمية ويشكل لنفسه قواعد شعبية، مستغلا تراجع مصداقية الفتاوى التي تماهت مع الحكومة سياسيا.
ولا توجد حتى الآن جهة واحدة للفتوى في مصر، فهناك رجال دين ينتشرون في وسائل الإعلام ولهم رؤى متناقضة، إضافة إلى الفضاء الإلكتروني الذي تنشط فيه تيارات متشددة بالتوازي مع تقاعس الأزهر عن تنقيح التراث من الفتاوى والأحاديث المشكوك في صحتها أو التي لا تتلاءم مع العصر، وهو ما أصبحت الحكومة تجني سلبياته وسط أزمة طاحنة لا تجد لها حلا.
وما يعمق أزمة الحكومة في توفير أقصى سيولة ممكنة في البنوك من أموال الناس أن الخطاب الذي يبيح الفوائد البنكية أصبح مشكوكا في صحته ونزاهته، لأن المؤسسة الدينية عمدت خلال السنوات الماضية لدعم خطط وقرارات وسياسات الحكومة، كنوع من إضافة المشروعية عليها في نظر الشارع.
وباتت شريحة كبيرة من الناس تتعامل مع المؤسسة الدينية الرسمية وفتاواها باعتبارها صادرة عن جهة حكومية وليس عن كيان مستقل يتحدث وفق نصوص الشرع فقط، وأصبحت هذه الفئة تبحث عن وجهة نظر مقابلة للخطاب الرسمي للتأكد من صحته.
وكالعادة يتبنى السلفيون الرأي المناهض لدار الإفتاء ويستغلون فتاوى شيوخ وعلماء أزهريين سابقين كانت لهم شعبية عند الناس وحرّموا فوائد البنوك، مثل محمد متولي الشعراوي، وجادالحق علي جادالحق، وكل ذلك بغرض إحراج الفتاوى المعاصرة لعلماء المؤسسة الدينية.
ورأى عبدالغني هندي عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية أن التحريض الفقهي ضد التعاملات البنكية جزء من حرب السلفيين وجماعة الإخوان ضد الدولة، حيث يستهدفون الثأر منها سياسيا واقتصاديا عبر توظيف الفتاوى والآراء المتشددة ضد أي خطة تبحث من خلالها الحكومة عن حل أي أزمة.
وقال لـ”العرب” إن كل التعاملات المالية للإخوان والسلفيين تتم عبر البنوك، وهذا يكفي للطعن على فتاواهم، لكن لن يتم إنهاء الجدل حول الفوائد المصرفية إلا إذا توحدت رؤى وفتاوى المؤسسة الدينية نفسها لأن اختلاف وجهات النظر يربك الناس، ولا بديل عن رأي موحد من دار الإفتاء ومجمع البحوث الإسلامية وهيئة كبار العلماء، لحسم الأمر وغلق هذه الثغرة أمام أي اجتهادات من وسطيين أو حتى متشددين.
ولا يزال موقف أحمد الطيب شيخ الأزهر من فوائد البنوك مثيرا لعلامات استفهام كثيرة لدى دوائر الحكومة، لأنه يتمسك بالصمت رغم تصاعد وتيرة الأزمة، وتتصدى دار الإفتاء وحدها للمشهد في مواجهة تيار متشدد يدعمه أنصار جماعة الإخوان كنوع من الثأر السياسي من النظام المصري والشعب والمؤسسة العسكرية.
ويبدو أن الطيب يريد إمساك العصا من المنتصف في مسألة فوائد البنوك، فلا يريد الظهور كأنه يساند توجه الحكومة أو خسارة الدعم السلفي للأزهر في مواجهة استهداف مستقبلي لتقييد نفوذه الديني، مع أن الكثير من الشرائح المجتمعية تحدد تحركاتها في المسائل المتشابكة مع الدين وفق رؤية الأزهر وشيخه الطيب الذي يفضل عدم الدخول في هذا المعترك الساخن.
وكان آخر رأي أطلقه شيخ الأزهر عن فوائد البنوك منذ ثلاث سنوات، حين قال “إذا أودعت الأموال بنية إقراضها للبنك ليحصل منها الفرد على فائدة فهذا حرام لأنه يكون ربا، أما إذا استثمرها في البنك واعتبره شريكا فيكون حلالا، لكن لم يتحد العلماء على حسم الملف وصار هناك صراع فقهي”، وهو الرأي الذي لا يزال يوظفه السلفيون على أن الطيب نفسه يحرم فوائد البنوك.
وبرغم إقحام اسمه في الصراع الدائر بين أصحاب الفتاوى المؤيدة والمعارضة للتعامل مع البنوك، إلا أن الطيب لم يحرك ساكنا، وهو الموقف الذي قد يُحسب عليه لاحقا، لأنه تراخى عن التدخل في أزمة عاصفة وتسبب صمته المريب في احتدام الجدل الديني، وصار يتم توظيف ذلك بصورة سياسية من تيارات دينية تسعى لتحريض الشارع على مقاطعة البنوك مهما كانت المكاسب.
وتعتقد دوائر سياسية أن وصول الأموال المودعة في البنوك إلى 250 مليار جنيه (حوالي 13 مليار دولار) خلال عشرة أيام يشكل ضربة قوية للسلفيين والإخوان الذين دأبوا على التشكيك في خطط الحكومة والتحريض ضدها، والإيحاء بأنها تسعى لكشف الاقتصاد الخفي لمواطنيها، لكن ذلك لا يعني أن هؤلاء تحركوا مدفوعين بفتاوى إباحة الفوائد، بل لكونهم يرفضون الوصاية الدينية من هنا أو هناك.