الـ"شيخة" فنانة مغربية تغني الحزن والفرح

يُنظر إلى "الشيخة"، كراوية للحقائق المجتمعية، حيث تعكس في أغانيها مواضيع تتعلق بالزواج، والزراعة، والمقاومة الاستعمارية، وغيرها من القضايا الاجتماعية الهامة.
الجمعة 2025/02/07
تتحدى النظرة الدونية

"الشيخة" فنانة من أبرز رموز الغناء الشعبي في المغرب، تغني للأجيال معاني الحياة اليومية والآلام والآمال المشتركة، بالمقابل تواجه الوصم الاجتماعي الذي يحيط بها، وهو ما يجعل عملها في هذا المجال أكثر تعقيداً.

الرباط - لم يكن إعلان “مباركة مول البلاد” عن رغبتها في العمل كـ”شيخة” مغنّية للعيطة في البداية موضع ترحيب من عائلتها. وكان غناؤها عن الحب والألم والتغييرات الاجتماعية، على ألحان أسلافها تحت اسم “ثريا”، محط استغراب وانتقاد من محيطها القريب.

وانضمت مباركة إلى مجموعة من النساء اللواتي يحافظن على أحد أقدم التقاليد الشفهية في المغرب، المعروف بـ”العيطة”، وهو نوع من الغناء الشعبي الذي يعبر عن “الصرخة” أو “الرثاء” باللغة الفصحى. تقوم هؤلاء النساء بأداء أغانيهن أمام الحشود في مناسبات مثل حفلات الزفاف والمهرجانات والمناسبات الخاصة، وكذلك في ليالي الحانات، حيث ينجحن في جذب انتباه الجمهور من مختلف الطبقات الاجتماعية، من الفقراء إلى الأثرياء، بعروضهن المبهرة.

ورغم التقاليد العميقة التي يعتنقها المجتمع المغربي، والتي ترى في العيطة جزءاً أساسياً من ثقافته الشعبية، إلا أن ممارسة هذا الفن كانت تعني، بالنسبة للكثيرين، وصم النساء اللاتي يقدمنه واتهامهن بتأدية فن ذي طابع جنسي، ما يضعهن على هامش المجتمع.

رغم التقاليد العميقة التي يعتنقها المجتمع المغربي، إلا أن ممارسة هذا الفن كانت تعني، بالنسبة للكثيرين، وصم النساء اللاتي يقدمنه واتهامهن بتأدية فن ذي طابع جنسي، ما يضعهن على هامش المجتمع

لكن ثريا، التي انطلقت من سيدي يحيى زعير، تقول إن الدعم من أبناء مجتمعها ساعدها في تخطي هذه العقبات. وتوضح في حديثها على هامش إحدى حفلاتها في جنوب العاصمة المغربية الرباط، “لم توافق عائلتي في البداية، وكنت أعاني من حكم المجتمع، لكن مع مرور الوقت أصبح كل شيء على ما يرام. وأنا أمارس فني اليوم لكسب المال من أجل أطفالي.”

والعيطة، هي نوع من الشعر الغنائي التقليدي، يستكشف موضوعات عدة مثل النجاحات الاجتماعية، والمفارقات الحياتية، والتحديات غير المعلنة التي يواجهها المجتمع. وغالباً ما تعالج العيطة قضايا العلاقات العاطفية والصراعات الاقتصادية، ما يجعلها تعبيرًا صادقًا عن هموم الناس.

وتستمر الشيخة في أداء هذا الفن، متزينة بمكياج ثقيل، مرتدية قفطانا حريريا وأحزمة ذهبية، وتغني عن آلام مجتمعها وأفراحه. وتعتمد في أدائها على حركات جسدية تعزز من مشاعر الأغنية، فتراها تراقص الجمهور إما بحركات مغرية أو فرحة، حسب سياق الأغنية.

وفي إحدى حفلاتها، انبهر الجمهور بصوت ثريا الذي يتنقل بلطف بين الطبقات الغنائية، ليصل إلى قمة الإحساس في صرخة قوية تجذب أنظار المستمعين. وشهد العرض مشاركة شقيقتها فاطمة التي اهتزت خرزات ملابسها مع كل حركة رقص، بينما دعم قائد الفرقة المغني بشِعره، في وقت كان فيه عازفو الطبل والقيتار والكمان يقدمون أداءً متناسقاً تاماً.

ويُنظر إلى الشيخة، في سياق هذا الفن، كراوية للحقائق المجتمعية، حيث تعكس في أغانيها مواضيع تتعلق بالزواج، والزراعة، والمقاومة الاستعمارية، وغيرها من القضايا الاجتماعية الهامة. ورغم أن ثريا تغني باللهجة المغربية الدارجة، إلا أن هناك شيخات أخريات يعتمدن اللغة الأمازيغية الأصلية، مع تكييف الموسيقى والكلمات لتناسب التراث المحلي لمناطقهن.

وفي العصر الحديث، ألهمت العيطة العديد من الأعمال الفنية المعاصرة مثل ثنائي “عيطة مون أمور” الذي يمزج بين العيطة والموسيقى الإلكترونية، وفرقة “كابريه الشيخات” التي تضم رجالاً يرتدون ملابس نسائية، ويؤدون أغاني الفنانات الشعبيات الشهيرات في القرن العشرين.

وكانت العيطة أيضاً موضوع فيلم “الجميع يحب تودة”، الذي سيمثل المغرب في مسابقة الأوسكار هذا العام، والذي يعكس رحلة امرأة تسعى لتحقيق حلمها في الغناء في الحانات والملاهي الليلية في الدار البيضاء.

pp

يشير نبيل عيوش، مخرج فيلم “الجميع يحب تودة”، إلى أن قوة تأثير هؤلاء النساء على الجمهور، سواء كان حديثًا أو تقليديًا، تكمن في قدرتهن على إبراز مشاعر صادقة ومؤثرة من خلال هذا الفن. ورغم التغيرات السريعة التي يشهدها المشهد الموسيقي المغربي مع صعود موسيقى البوب والراب، مازال فن العيطة يحتفظ بمكانته في المجتمع، حيث يبقى ذا جذور عميقة في الثقافة المغربية.

ورغم تطور المجتمعات الريفية وتقلصها نتيجة التوسع الحضري، إلا أن العيطة لا تزال مستمرة في نقل تراث الأجيال السابقة، وتحافظ على مكانتها في وجدان المغاربة. وفي هذا السياق، يقول رشيد قادري، أحد الشيوخ الذين يغنون العيطة، “لن تموت العيطة لأنها تتجدد بفضل الشباب.

ستستمر مع مرور العصور، فالشيوخ يحبونها كما يحبها الشباب، ويمكن تطويرها وتحسينها مع الحفاظ على أصولها.”

في النهاية، يظل فن العيطة ساحة خصبة للتعبير عن آلام المجتمع وأفراحه، وهي تروي قصة الشعب المغربي بكل تفاصيله وأحلامه، لتحمل في طياتها رسالة عن القدرة على التغيير والنهوض مهما كانت التحديات.

18