الشوارع الفرنسية تروي قصصا منسية لمهاجرين غرباء

في محاولة لتذكير المجتمع الفرنسي بقضية الـ”شيباني” بوصفها إشكالية مزمنة، رسم الفنان الفرنسي الملقب بـ”فانس” واسمه الحقيقي فانسان لوازي على واجهة أحد المباني الكبيرة في حي مالاكوف جنوب العاصمة الفرنسية باريس لوحة كبيرة لرجل عجوز من المهاجرين القدماء يحاول تعديل ربطة عنقه وهو مُغمض العينين، اعتبرت من قبل أهالي المنطقة كتحية لهؤلاء الذين عانوا من حياة صعبة للغاية في شبابهم كما في كهولتهم.
الثلاثاء 2016/06/21
جدارية الاعتراف بالحقوق

صورة قوية في الهواء الطلق بتوقيع الفنان الشاب فانس، كُتبت عليها كلمة “شيباني” باللغة الفرنسية كما تُلفظ بالعربية، رأى فيها كثيرون صورة لآبائهم الذين عبروا البحار بعد الحرب العالمية الثانية باتجاه فرنسا للعمل مؤقتا بعيدا عن عائلاتهم، ثم ما لبثوا أن استقروا فيها ثم هُمّشوا وتعبوا وهم يُطالبون بالاعتراف بحقوقهم في هذه البلاد.

والفنان الشاب فانس (مواليد 1981)، رسام وموسيقي، عصامي مُثابر، شكّل فنّه في الشارع من خلال الرسم والكتابة على الجدران بوسائل مختلفة، وبات مطلوبا من قبل الشركات ليرسم لها على جدران أبنيتها ومعاملها القديمة ما يحلو له بتفويض مُطلق، وقد رسم لوحات تدعم القضية الفلسطينية، وغيرها من الأعمال في خدمة النشطاء السياسيين والتعليم الشعبي، واختار لقضيته هذه المرة صورة والد الصحافي الفرنسي الجزائري نادر ديدون، والذي وصل إلى فرنسا عام 1950 في عمر 22 سنة قادما من منطقة القبائل دون تأشيرة حيث كان بلده جزءا منها، وما لبث أن حوّل إقامته المؤقتة كعامل إلى دائمة وأحضر أسرته لتشاركه المعاناة والحياة الصعبة.

الشعر الأبيض

تعني شيباني أصحاب الشعر الأبيض باللغة العربية، وباتت دارجة كما هي في اللغة الفرنسية، وتعني بالفرنسية عمليا العمال المتقاعدين من المهاجرين ولا سيما الأفارقة ومن المغرب العربي، ويُقدّر عددهم بنحو 235 ألف شخص، غالبيتهم من الرجال الذين تجاوزت أعمارهم 65 عاما، تركوا بلادهم وهم في مقتبل العمر وجاءوا إلى فرنسا في سنوات ازدهارها (أو ما تسمّى بسنوات المجد الثلاثين) للبحث عن عمل يعيشون منه، وساهموا في إعمار البلاد الخارجة من دمار الحرب العالمية الثانية، وتحول حلمهم في جمع بعض المال للعودة إلى بلدانهم الأصلية من أجل إقامة دائمة طوعية حتى التقاعد.

وفي خمسينات القرن الماضي، كانت الحاجة في فرنسا إلى الأيدي العاملة كبيرة، فاستقدمت الدولة هؤلاء العمال الأجانب من دول كانت مستعمرة لها، وكانت تريد لهم إقامة مؤقتة، ولم تُظهر اهتماما بتأمين سكن مناسب لهم، فسكن الكثير منهم في بيوت من مدن الصفيح على أطراف المدن الكبرى، وبين عامي 1950 و1970 بنت السلطات الفرنسية مساكن للعمال المهاجرين عبر الشركة الوطنية لبناء مساكن العمال “آدوما” وغيرها، وكانت تتكون من مهاجع أو غرف منفردة صغيرة بخدمات مشتركة، لأن الدولة الفرنسية كانت تعتقد أن هؤلاء العمال سيعودون في نهاية المطاف إلى بلدانهم، ولم تُحاول إدماجهم في المجتمع الفرنسي، لكن ما يفترض أن تكون مساكن مؤقتة صارت بيوتا دائمة، ولم يسع الكثير منهم إلى تغييرها فيما نجح آخرون في استئجار شقة لاستقدام عائلاتهم، ونشأت علاقة منسوجة من التبعية الاقتصادية للبلد والشعور بالدونية مقابل حرمان من الكثير من الحقوق التي كان يحصل عليها مهاجرون آخرون من دول أحسن شأنا.

خلال خمسينات القرن الماضي كانت الحاجة في فرنسا إلى الأيدي العاملة كبيرة، فاستقدمت عمالا أجانب من دول كانت مستعمرة

فوّضت بلدية الحي بشكل مطلق الفنان فانس ليرسم ما يشاء، فعمل بشكل مكثف جدا لمدة 12 ساعة كل يوم، ما سمح له بإنجاز اللوحة خلال أربعة أيام، وأوضح “هذه هي طريقتي لتكريم المهاجرين الأوائل الرئيسيين إلى فرنسا، ولأشيد بهؤلاء الرجال وألفت النظر إلى ظروفهم المعيشية وعدم المساواة في معاشاتهم التقاعدية وحرمانهم من حقهم في التصويت.. إنه تكريم لعالم العمل بشكل عام”.

وأكثر هؤلاء الـ”شيباني” هم من مالي والجزائر والمغرب وتونس وساحل العاج، وقد هاجر البعض من هؤلاء إلى فرنسا طلبا للعمل، فيما لجأ إليها بعضهم طلبا للحرية والانفتاح، ففتنوا بالمترو وبرج إيفل وبكل تفاصيل الحياة الفرنسية المُرفّهة، وأحبوا الحرية فيها، لكنهم لم ينسوا بلدانهم، وأصيبوا بصدمة حين أيقنوا أنهم لا يستطيعون العيش كالفرنسيين، ودفعهم إحباطهم هذا بالإضافة إلى صعوبة العمل والحياة والشعور الدائم بأنهم من المؤقتين، إلى عدم الاهتمام بالاندماج.

هذه النقطة تبقى مثار جدل واسع في المجتمع الفرنسي، فعدم اندماج هؤلاء (طوعا أو رغما عنهم) أبقى قسما كبيرا منهم أميين، كما أن شعورهم بعدم العدالة والمساواة ولّد لاحقا حالة من الكره بينهم وبين البلد وسياساته، نقلوها لاحقا إلى الجيل الثاني والثالث من المهاجرين، فنشأت شريحة من المهاجرين الشبّان الفرنسيين من الأصول الأجنبية ممن تعتبر نفسها مظلومة، وتسبب هذا بدوره في عدم تعاطف شريحة واسعة من المجتمع الفرنسي مع مثل هؤلاء المهاجرين القدامى.

ظروف صعبة

وعلى الرغم من الأوضاع التي يعيش فيها الكثير من الـ”شيباني”، إلا أن الظروف الصعبة تظل نسبية، فغالبية العمال من المهاجرين القدامى لا يريدون مغادرة فرنسا والعودة إلى بلدانهم بالنظر إلى الحد الأدنى الذي تحقق لهم والذي لا يمكن أن يتحقق لهم في بلدانهم الأصلية، فالعلاج الصحي المجاني مضمون، وكذلك المواصلات والمساعدات الاجتماعية على قلّتها، كما أن الغرف الصغيرة والمشتركة والمهاجع قد انتهت والمساكن الملائمة توافرت وأجورها رمزية وتتناسب مع مداخيل كل الأفراد، إضافة إلى ما يتقاضونه من مساعدات التضامن المخصصة للمسنين والبالغة حدا يسمح لهم بالعيش بالحد الأدنى، لكن الكثير منهم صار يغادر إلى بلده الأصلي لفترات طويلة دون أن يدري أن ذلك سيحرمه من المساعدات، فوجد الآلاف منهم أنفسهم محرومين من المساعدات، بل وطلب منهم إعادة الأموال التي منحت لهم كمساعدات، وصارت مأساة بالنسبة إليهم.

شعور هؤلاء والأجيال اللاحقة من أبنائهم بأن لهم حقوق يجب أن يأخذوها عنوة من فرنسا، ورغبتهم في العيش بمستوى يوازي نظرائهم الفرنسيين، ووجود قناعة لديهم بأنهم أوصلوا فرنسا إلى ما هي عليه من عظمة، وحصولهم على ما لا يحصل عليه نظرائهم في بلدانهم الأصلية، كلها عوامل لا تمنع مطلقا التضامن معهم ضد أي مظلمة مروا بها أو عانوا منها، والوقوف ضد أي تمييز يتعرضون له، وهو في الحقيقة ما تفعله شريحة واسعة من الفرنسيين مثل فانس.

14