الشهرة هدف جيل التكنولوجيا بكل الطرق

في السابق كانت الشهرة من نصيب أصحاب الإنجازات الكبرى فقط، الذين بذلوا جهودا كبيرة للوصول إلى أهدافهم، لكن اليوم ومع تحول المجتمعات إلى الرقمية وانتشار الشبكات الاجتماعية وتطبيقات الفيديو لم تعد هناك أهمية للإنجاز، وأصبحت الشهرة حلم غالبية الجيل الجديد، يسعون إليها بكل الطرق مهما كانت غريبة أو منبوذة.
القاهرة – ظهر محمد بقميص أبيض عليه صورته كُتب تحتها “محمد قمصان أقوى من السرطان” عام 2019، مشجعا غيره على مقاومة المرض، وحصل على الكثير من التكريمات في احتفاليات مختلفة، كما حصل على عدد من شهادات التقدير، وحضر اللقاءات التلفزيونية، وقد اكتسب هذه الشهرة من أجل معاناته مع المرض ورسائله التشجيعية، وابتسامته التي تظهر في صوره على صفحته التي استطاع توثيقها، ولكن بعد نحو عامين تبين أنه ادعى الإصابة بالمرض “من أجل الشهرة”.
كان الشاب المصري محمد قمصان ينشر صوره على صفحة أنشأها على فيسبوك، استطاع من خلالها كسب تعاطف نحو 70 ألف شخص، قبل أن يتبين زيف ادعاءاته ويصدم المتابعين. ورغم ذلك فإن الحادثة ليست غريبة بالنسبة لجيل مواقع التواصل الاجتماعي، حيث انتشرت ظاهرة البحث عن الشهرة بين الشباب مهما كلفهم الأمر من ضريبة تُدفع من سمعتهم وذواتهم، فقط من أجل الظهور! حتى لو تجاوزوا كل الحدود المرغوب وغير المرغوب فيها فقط للوصول إلى هذه الشهرة!
ودفع قمصان ثمن الهوس بالشهرة، حيث استدعته الشرطة، فأكد عدم إصابته بالمرض وأنه ادعى الإصابة بالسرطان في مواقع التواصل الاجتماعي لتحقيق الشهرة والربح، ووجهت له تهمة إذاعة أخبار كاذبة واستعمال وسيلة غير شرعية للاستيلاء على الأموال.
ويقول علماء الاجتماع إن الشهرة تلبي الحاجة إلى تحقيق الذات، حيث يسعى الشباب من خلالها للبحث عن ذواتهم وتحقيقها، من خلال استثمار قدراتهم ومهاراتهم ليحققوا من خلالها أكبر قدر ممكن من الإنجازات في المجالات التي تتصل بميولهم واهتماماتهم، لكن المشكلة تنشأ عند عدم وجود مواهب وإنجازات حقيقية، فيلجأ البعض إلى الطرق الملتوية والاحتيال أو سلوكيات منحرفة للوصول إلى الشهرة.
ويعتبر علم النفس أن لفت الانتباه حاجة نفسية غريزية لا تختلف عن الحاجات البيولوجية الجسدية والحاجات العاطفية والاجتماعية، ولكن إذا أصبحت الرغبة جامحة في حب الظهور أخذت منحى مرضيا.

وليس بالضرورة أن كل من يدعي المرض يكون من أجل الشهرة، فقد يكون من أجل كسب تعاطف وشفقة الجمهور، لأنه غالبا ما يكون لديه إحساس بالنقص.
ومرضى الشهرة مختلفون بين من يعاني أمراضا نفسية، وهي عدم الثقة بالنفس والإحساس بالعجز وشهوة الشهرة، وبين من يسعى إلى القفز على الفوارق الطبقية الاقتصادية والاجتماعية بين العامة والمشاهير، وتلبية الشعور بالاحتياج دائما إلى الأموال.
وحدد عالم النفس الأميركي أبراهام هارولد ماسلو في نظريته السيكولوجية التي أطلق عليها اسم “هرم ماسلو”، الحاجات الأساسية للفرد ضمن خمسة مستويات، بدأها بالحاجات الفسيولوجية، وحاجات الأمان، والحاجات الاجتماعية، والحاجة إلى التقدير، وأخيرا الحاجة إلى تحقيق الذات.
وجاءت نظريته بعد دراسة مستفيضة بنيت على ملاحظة المرضى النفسيين المترددين على عيادته. وأشار في نظريته إلى أن تلك الحاجات غير المشبعة قد تسبب توترا عند الفرد، فيسعى للبحث عن إشباع تلك الحاجات.
وتقترن حاجات تحقيق الذات اقترانا وثيقا بالسعي وراء الشهرة وحب الظهور، وذلك خلافا للشهرة التي اكتسبها المشاهير بشكل آلي كالانتماء إلى عائلة عريقة أو ملكية، أو ثروات طائلة أو إنجاز مهني كبير في المجالات العلمية أو الرياضية.
الشباب يبدأون رحلة من التنازلات منذ السعي لإثارة ضجة إعلامية واهية، والظهور بصورة مغايرة لحقيقتهم
وفي السابق كانت الشهرة الواسعة من نصيب أصحاب الإنجازات الكبرى فقط، من العلماء الذين تدرّس اختراعاتهم في الكتب، ومن خلال المقابلات التلفزيونية، أو الشهرة التي يكتسبها الرياضيون وتحديدا في الأندية العالمية، أو عارضات الأزياء، ونجوم الصف الأول من الفنانيين، أما اليوم فالشهرة العالمية باتت حلما تحقق لأناس عاديين ولأطفال وأشخاص من كافة التخصصات، وحتى أن البعض كانوا عاطلين عن العمل، إلا أنهم يمتلكون حسّ الدعابة والمرح، فأصبحوا من المشاهير ولديهم متابعون، وباتوا يعدون من المؤثرين في مجتمعاتهم بسبب الشبكات الاجتماعية.
وقامت مواقع التواصل بمختلف أنواعها بدور سلبي في هذا الشأن، إذ أصبحت الشهرة حلم غالبية الجيل الجديد يسعون إليها بكل الطرق، متأثرين بالمشاهير الذين ساهموا بفرض أفكار وأنماط سلوكية غريبة على الشباب، وقد اقتحمت مصطلحات المشاهير وعاداتهم السلوكية الجيل الجديد، إلى درجة أن الحسابات الشخصية للمشاهير تحولت إلى مراكز إعلامية ناجحة رغم كل الاعتراضات والانتقادات التي تُوجّه إليها!
ويبدأ الشباب رحلة من التنازلات منذ السعي لإثارة ضجة إعلامية واهية، والظهور بصورة مغايرة لحقيقتهم، عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، ولاسيما تطبيق تيك توك الأكثر شعبية اليوم بين الشباب والمراهقين بشكل خاص، مستفيدين من سهولة إيصال أي فكرة يؤيدونها وبأسرع وقت ممكن، فبعضهم من خلال مقطع فيديو استطاعوا تحقيق انتشار واسع بعد تداوله بسرعة قياسية ومشاركته مع عدد كبير من المتابعين، ما فتح آفاق الشهرة على مصراعيها، وأغرى الكثير من الشباب المتابعين بالسير على نفس الخطى للوصول إلى الشهرة.
ويعتبر أخصائيون اجتماعيون أن هناك فئة من الشباب يبحثون عن الشهرة في سناب شات وتيك توك، ويبثون ما يجول بخواطرهم دون النظر للاعتبارات الأخلاقية والاجتماعية، وليست لديهم القدرة الكافية من النضوج الفكري والثقافي ويقدمون محتوى غير لائق أو غير مفيد، وهدفهم فقط رفع عدد المشاهدين بدافع البحث عن الشهرة، وهذا النوع يحتمل إصابته بعزلة اجتماعية أو ما يسمى بالجوع الاجتماعي، لأنه غير مشبع اجتماعيا ويلجأ في الغالب إلى آراء غير متوافقة، ويتكلم عن خصوصيات من المفترض ألا يتطرق إليها، وهذا ناتج عن عوامل اجتماعية ونفسية تؤثر على شخصيته.
ولجأ البعض من الشباب إلى اختلاق قصص على سناب شات عن حياتهم الشخصية لزيادة عدد المتابعين بشكل يوثق حساباتهم من قبل الشركة الأم، ولم يهتموا إن كان الإعلان عن زواج أو طلاق أو رواية تتناول حياتهم الشخصية بطريقة مسيئة.
ولا ينفصل حب الشهرة المرضي عن هوس التميز الاجتماعي النابع من عقدة نفسية سلوكية اجتماعية، وهي ظاهرة جذورها متأصلة في التكوين النفسي للفرد وقد تغذت بالتربية والمحيط الاجتماعي.
وقامت طالبة بإحدى الجامعات بنشر تدوينة على حسابها بموقع فيسبوك، تتضمن رواية عن تعرضها وبعض زميلاتها لواقعة “تحرش منذ 4 أعوام” من أحد الطلبة بالكلية، وقيامه بإرسال بعض الصور المخلة لهن.
وتبين بأن الطالبة المذكورة قامت بافتعال الواقعة رغبة منها في الظهور والشهرة بأوساط زملائها، إثر تناول المنصات الإعلامية لواقعة مشابهة بإحدى الجامعات الخاصة. وبعد اكتشاف أمرها قامت إدارة الجامعة بإحالة الواقعة للشؤون القانونية لاتخاذ الإجراءات التأديبية اللازمة.
وهذه حادثة تشير إلى مدى تجاهل البعض من الشباب لسلبيات الهوس بالشهرة وأضرارها على مستقبلهم، إذ يتخذونها قناعا اجتماعيا يتسترون به أمام الآخرين، ويصل بهم الأمر إلى التستر على ذواتهم في نوع من تجنب شخصياتهم الحقيقية وعيوبها.
ويرى المختصون أنّه حين تتحول الشهرة إلى هوس حقيقي وتصبح حياة الشاب مرتبطة بالبحث عنها فقط، يدخل في حالة من الاكتئاب الشديد إذا لم يتحقق ما يسعى إليه، ففي أغلب الحالات يعقب الهوس حالات من الاكتئاب، وهذا ما يسمى باضطراب ثنائي القطب، عندها من المفضل استشارة أخصائي نفسي للتخفيف من حدة هوس الشهرة، والذي يدفع الشاب إلى أن يبني الكثير من الأحلام الواهمة التي لا علاقة لها بالواقع.
لفت الانتباه حاجة نفسية غريزية لا تختلف عن الحاجات البيولوجية، ولكن إذا أصبحت الرغبة جامحة أخذت منحى مرضيا
ويذهب البعض إلى اعتبار هوس الشهرة داء يفتك بأصحابه، كونه ينطلق من مبدأ حب الذات وتقديم كل ما قد يعتبره مناسبا له ومفيدا دون التفكير بشخص آخر أو متطلبات أخرى، ما قد يؤدي إلى خسارة الكثير من الناحيتين الاجتماعية والنفسية لأن هؤلاء الشباب يسعون لجذب الانتباه بكل الطرق، فيتحكم هوس الشهرة فيهم وتتضخم معها الأنانية ويخلقون لأنفسهم صورة غير واقعية وحياة مزيفة.
وترى المختصة الأردنية بعلم النفس منى عبدالباري، أن نتائج ذلك كله بكل تأكيد تغطية العيوب الداخلية وتعويض النقص، وسبيل يحصل منه الشاب على المال بأسهل الوسائل، وبلوغ بريق الأضواء والنظرة للآخرين بغرور، وكأنه صنع لنفسه هالة كبيرة بشقاء وتعب فيصبح إنسانا عاشقا للمدح والثناء.
وترى أن هوس الشهرة له نتائج سلبية على المجتمع نفسه، فتقول “فالتقليد الأعمى للمشاهير المصابين بهوس الشهرة من قبل الجيل الجديد يترتب عليه خلق جيل ضائع لا يفقه ما يقول أو يفعل.. جيل يفتقد الاجتهاد والعمل والطموح الحقيقي.. حيث تلوث أسماع وأبصار الجيل القادم بشباب طائش هوسهم حب الظهور ووصولهم إلى شهرة مزيفة”.
ويعاني المشاهير أنفسهم من الاضطرابات الداخلية وعدم الاتزان أحيانا والمشكلات الأسرية في الطفولة، وقد اعترف العديد منهم بذلك، بل هناك من لجأ إلى مركز علاجي للأمراض النفسية والعصبية.
وأوضح الدكتور ميتش برينشتاين أحد الباحثين في علم نفس الشعبية بجامعة نورث كارولينا الأميركية، أن الباحثين يقسمون الشعبية إلى نوعين: النوع الأول، وهي الشعبية القائمة على التفضيل الاجتماعي، أو المحبة والاحترام اللذين يلقاهما المرء نتيجة لتمتعه بشخصية جذّابة و”كاريزما” لطيفة. والنوع الثاني، وهي الشعبية المتمحورة حول السمعة الاجتماعية، والتي يسعى من خلالها المرء لحيازة الإعجاب بصرف النظر عن كونه محبوبا أم لا.
وأضاف برينشتاين أن النوع الثاني بات الأكثر انتشارا في العالم، وهو آخذ في التزايد بصورة خطيرة، وأشار بالقول “مقارنة بالعقود القليلة الماضية، أصبحت أهداف حياتنا اليوم تعكس رغبتنا في امتلاك المزيد من الممتلكات، والحصول على المزيد من القوة، والشعور بمكانتنا ونُفُوذِنا، وكوننا مؤثرين وأصحاب سلطة بين مجتمعاتنا. ويتناقض هذا بشكل صارخ مع رغبتنا في تعزيز المجتمع وتنميته، والتعاون مع بعضنا البعض كما كان الأمر منذ بضعة عقود”.
وقد تخفي الرغبة في الشهرة إحباطا أو اضطرابا نفسيا غير مشخّص، كما تقدم الشهرة وعدا كذلك بالهروب من العزلة، سواء كان ذلك حقيقيا أو بصورة متخيلة.