الشعوذة بين تمسك المخيال والتقاليد بها ومتطلبات عزلها بالعلوم

تونس ـأكدت العديد من الدراسات في الوطن العربي أن نسب الإقبال على مراكز الدجل والمداواة بأدوات ومعارف غير طبية تعد نسبا عالية ومخيفة أحيانا لأن الأرقام التي تضبط هذه الظاهرة وتفسرها تعد أرقاما مهولة. فقد أظهرت دراسة أكاديمية، أعدها أستاذ الثقافة الإسلامية بالجامعات العربية والسودانية الدكتور إسماعيل محمد الحكيم، وهي بعنوان “الإسلام ومحاربة الدجل والشعوذة”، أن العالم العربي ينفق سنويا أكثر من خمسة مليارات دولار على أعمال الدجل والشعوذة، وأن الإحصائيات أشارت إلى أن نحو 70 بالمئة من المترددين على الدجالين المشعوذين من النساء.
وتؤكد الأرقام، أن المجتمع التونسي مثلا وبالرغم مما حصل في نصف القرن الماضي من تطور في ميادين التعليم والطب وتحرير المرأة والقوانين وغيرها، فإن عدد المشعوذين والدجالين يفوق عدد الأطباء في البلاد. إذ تبين الأرقام أن المشعوذين في تونس وصل عددهم إلى 145 ألف مشعوذ حسب الباحث في علم الاجتماع التونسي زهير العزعوزي، مقابل عدد الأطباء الذي لا يتجاوز الـ80 ألفا.
السواد الأعظم من الشعب العربي اليوم لا يزال يؤمن بأن تحقيق الرغبات يتم عبر وساطات “ربانية” تتكفل بتلبية رغبة الناس
ولكن تبقى الشعوذة مسألة عصية عن الاجتثاث في المجتمعات العربية بشكل عام نظرا لالتصاق هذه الظاهرة بفهم مغلوط للدين والتدين. إذ كشفت العديد من القنوات التلفزيونية في تونس أن أعدادا كبيرة من الناس لا تزال تزور مقرات الشيوخ المعروفين بالمداواة عن طريق سلوكات غريبة كرش الناس بالماء الساخن مع تمتمة طلاسم أو كتابة أشياء على أجسادهم أو غيرها.
وفي المقابل، يجيب الأطباء وباحثو علم الاجتماع والصحافيون وغيرهم من معارضي انتشار ظاهرة الشعوذة في البلاد بأن “كل ما يدعيه هؤلاء المشعوذين من قدرة على المداواة وتحقيق الأمنيات والأحلام وإرجاع العلاقات وغيرها ليست سوى ادعاءات وتخاريف وكذب بغاية سلب أموال الناس والوصول إلى الثراء الفاحش في مدة قصيرة”.
|
نحن نعالج بالروحانيات ولسنا مشعوذين
قال أحد المعالجين التونسيين بالشعوذة إن “عمله كمعالج بالماء الساخن قد أثبت فعاليته مع الناس على مدى أكثر من عشر سنوات عمل في هذا الميدان في مدن مختلفة من تونس. وادعى المشعوذ الذي يدعى كمال المغربي أن “موهبته في العلاج عبر الروحانيات اكتشفها في ذاته منذ الصغر وأنه قادر على شفاء الناس بالتعويذات وترتيل آيات معينة من القرآن ورش ماء ساخن من فمه”.
ويقول المغربي إن لديه “قدرة عجيبة” على إعادة المريض إلى حالته الطبيعية وتقريب البعيدين أو الضائعين وإعادة العلاقات بين المتخاصمين وتجنيب الأزواج المتخاصمين الطلاق وغيرها من الأمور التي تتعلق بالحياة الشخصية للناس. ويدافع المغربي عن نفسه قائلا إن “المشككين في ادعاءاته يمكن أن يطلعوا على فيديواته التي ينشرها في الإنترنت وهو بصدد شرب الماء الساخن من إبريق نحاس بعد أن يتمتم عليه كلمات معينة”.
ويأتي هذا الرد من المشعوذ كمال المغربي بعد أن قامت وسائل الإعلام التونسية بالذهاب إلى مكتبه الواقع في الضاحية الجنوبية لتونس وتصوير ما يجري في المكتب والاكتظاظ الذي يشهده، وقد أثارت تلك الصور جدلا في أوساط المثقفين والمسؤولين حول كيفية السماح لهذا الرجل بالقيام بمثل هذه الأعمال في دولة تعتبر رائدة في مجال التنوير والتعليم والمدينة.
وقالت إحدى التونسيات اللاتي يقفن في صف طويل ينتظرن دورهن للدخول إلى العراف إنها “قدمت من فرنسا أكثر من مرة لتتمكن من لقاء هذا العراف وطلب العلاج لما تعانيه من مرض ألم بها وأيضا لتسهيل زواج ابنتها من شخص عربي ومسلم في فرنسا”.
وقالت هذه السيدة إنها سمعت عن هذا العراف أكثر من مرة في مدينة ليون الفرنسية وقد حدثها العديد من التونسيين عن “القدرات الخارقة لهذا الرجل”، لكنها أكدت في ذات الحين أنها قدمت أكثر من مرة ولم تتمكن من الحصول على موعد لأن المسألة متعلقة بدفع رشاوى لمن يقفون على الباب وأيضا للحراس المنتشرين في كل مكان.
عندما يترافق غياب الفكر العلمي والنقدي وسيادة الجهل المعمم تصبح الشعوذة تجارة رائجة ومربحة
وأكد العراف المغربي في معرض كلامه في إحدى الحصص التلفزية أنه لا يبحث عن مال الناس بقدر ما يبحث فقط عن دفع مصاريف آداءاته للدولة واستخلاص معاليم الضرائب وغيرها، وأيضا كي يسدد رواتب من يعملون معه، قائلا “لا أبحث كثيرا عن الماديات إلا لكي أعيش وهذه مهنتي كعراف”.
ويقول أحد التونسيين الذين وقفوا في الصفوف الطويلة في انتظار دوره للدخول إلى المغربي إنه يأمل في إيجاد حل لمشاكله النفسية والضغوط المسلطة عليه في العمل والعلاقات الاجتماعية وخاصة مع عائلة زوجته.
وأضاف قائلا “جئت من الجنوب التونسي إلى العاصمة كي ألتقي بكمال المغربي علني أجد علاجا لما أعيشه من مشاكل وضغوط”. وأكد الرجل أنه لم يذهب من قبل إلى طبيب نفسي كي يبحث عن حلول لما يعانيه من ضغوط، مشيرا إلى أنه يخير المجيء إلى العراف كي لا يظهر في محيطه “مجنونا” وهو يزور طبيبا نفسيا إلا أنه لن يظهر كذلك إذا زار مشعوذا.
ويشير العراف كمال المغربي إلى أن “الحملة الإعلامية ضده” تريد أن تقضي على اقتصاد كامل في البلاد يقوم على التداوي بالطريقة التي يقول عنها إنها “طريقة روحانية دينية”.
ويؤكد العراف أن هذا التداوي قديم ومرتبط بثقافة الناس ومعتقدهم ومن الصعب أن يتم اقتلاع هذه الثقافة لأنها “نابعة من إيمان الناس وتقاليدهم”.
وقال المغربي إن لديه ترخيصا من الدولة التونسية منذ أكثر من عشر سنوات ويزاول بذلك الترخيص مهنته ويصر على أنه لن يغلق محله الذي يداوي فيه المرضى ويلبي به طلبات المحتاجين حسب قوله، وهذا ما أكده أيضا عدد آخر من العرافين في تونس مشيرين إلى أن مهنتهم كعرافين لا يمكن أن تنتهي طالما هناك حاجة من الناس لهم.
|
العلم يناقض الشعوذة والدجالون محتالون
بعد نفي محافظ بن عروس (محافظة جنوب العاصمة التونسية تونس) أنه قدم ترخيصا للعراف كمال المغربي ليباشر عمله كعراف ومداو بالروحانيات كما يعرف نفسه، تأكد للرأي العام التونسي أن أغلب ما يقوله هذا العراف ليس سوى كذب وافتراء وادعاء مناقض للعلم ولحقيقة أنه قادر على مداواة المرضى وتقديم العون للمحتاجين عبر الروحانيات والقرآن والماء الساخن الذي يقوم برشه على الناس.
ويقول أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية طارق بالحاج إن اللجوء إلى المشعوذين والدجالين هو “سلوك يمثل تعبيرا واضحا على سيكولوجية الإنسان المقهور والمهزوم الذي يحاول البحث عن حلول ووصفات غيبية لمشاكله الواقعية”. ويفسر ذلك بالقول إنه “حين لا نجرؤ على تحمل مسؤولياتنا في الحياة أو نعجز عن تحملها أو حلها نلتجئ إلى السحرة والمنجمين والعرافين ليجدوا لنا الحلول بالنيابة عنا نظرا لسيادة ثقافة التواكل أو لاستبداد حالة اليأس بنا”.
وتؤكد تقارير صحافية نقلا عن أخصائيين في علم النفس سواء تونسيين أو من دول عربية أخرى أن اللجوء إلى الطرق الموازية للتداوي وحل الإشكالات لن يفيد في شيء، بل سيساهم في تعزيز مفاهيم الغيبيات والتواكل والتعويل على الشعوذة والكذب والاحتيال.
وتقول الأستاذة فتحية السعيدي الباحثة في علم النفس الاجتماعي إن حرفاء المشعوذين “يلتجئون إلى السحرة والعرافين إما لتأمين مستقبلهم المهني أو الشخصي أو لحل مشاكلهم النفسية والواقعية أو لتصفية حساباتهم مع خصومهم، كما يمكن أن يلتجئوا إليهم أيضا عندما تستبد بهم حالة اليأس وفقدان الأمل”. فحين يلاحقهم الماضي بخيباته وآلامه وحين يحاصرهم الإحساس بالعجز في الحاضر وحين يفقدون الأمل في المستقبل يندفعون نحو الخرافة بحثا عن الحل والراحة والمعجزات فمن هان يسهل الهوان عليه ومن عجز عن الفعل في الواقع ينغمس في الأسطورة طوعا.
الحملة الإعلامية ضد العراف تريد أن تقضي على اقتصاد كامل يقوم على التداوي بالطريقة الروحانية
عندما يترافق غياب الفكر العلمي والنقدي وسيادة الجهل المعمم، مع تعقد ظروف الحياة وحيثياتها ومع فقدان الأمل في المستقبل وسيادة الفكر الخرافي وعقلية التواكل والغيبية، يصبح السحر بضاعة رائجة ومربحة ويتحول المشعوذون إلى نجوم ومشاهير ويتحول السحر والشعوذة إلى ظاهرة رائجة تثابر كل طبقات المجتمع على ممارستها بانتظام. هذه الظاهرة وعمقها وتفشيها مؤشر عن الفقر والتخلف الحضاري والعلمي والثقافي وتمثل عرضا جانبيا من أعراض أمراض اجتماعية ونفسية أخرى أكثر خطورة، وهو ما أكدته الباحثة فتحية السعيدي.
وفي سياق التوضيحات الدينية للمسألة، قال الباحث في العلوم الإسلامية أحمد الغربي إن الدين الإسلامي يحرم اللجوء إلى السحر والشعوذة والخرافات لأن الإسلام “دين ينتصر للعلم والعقل والعمل”. ويضيف الغربي قائلا “يعتبر اللجوء إلى العرافين ضربا من ضروب الشعوذة والدجل وليس من تعاليم الإسلام الذي يأمر بالأخذ بالمسببات لتحقيق الأسباب، يعني بعبارة أوضح أن الإسلام يدعو إلى أخذ العلوم واجتناب كل ما هو خرافات وأساطير وبالتالي حارب ظاهرة الشعوذة وقاومها وقد وردت أحاديث نبوية شريفة تؤكد ذلك”.
ويوضح الباحث الجامعي أحمد المغربي أن من يلتجئ إلى المشعوذين والعرافين هم ضعيفو الإيمان والعقيدة بمعنى أنهم لا يتوكلون على الله ولا يأخذون بالمسببات. ثم إن ادعاء هؤلاء العرافين بأنهم قادرون على شفاء الناس من أمراضهم هو من قبيل الكذب والتحيل ويستعملون طرقا مبنية على الحيلة والخداع. والادعاء بشفاء الناس من السحر هو ضرب من الدجل والشعوذة.
وتؤكد آراء صحافيين وأطباء تونسيين أن ظاهرة العلاج بالطرق الخرافية والشعوذة مسألة تتطلب وقتا كي يتم استئصالها من المجتمع التونسي بالرغم من مجهودات الدولة على مدى نصف قرن في تحديث الحياة ونشر التعليم والصحة والمستشفيات في كل المحافظات والقرى.