الشعر مغامرة ضد الزمن وارتداد نحو الطفولة

الشاعر البحريني أحمد مدن يعترف أنه كثيرا ما فقد قصائد وأحيانا مخطوط ديوان، دون أن يلازمه الندم.
الاثنين 2018/06/04
علينا أن نعتاد على التغير والاختلاف

كل جيل شعري من أجيال البحرين المتعاقبة يحمل أسئلته ومصائره معه في حقيبة الشعر العصية على الموت، ومع كل تجربة تتولد الحكايات النابعة من مخاض تراكماتها اليومية التي ترتبط أحيانا بمعاصرة اللحظة الراهنة، وأحيانا أخرى ترتبط بذاكرة الطفولة المضاعفة. والشاعر البحريني أحمد مدن استطاع الإمساك بالحكايتين. “العرب” توقفت معه في حوار حول تجربته وحول بعض القضايا الثقافية الأخرى.

صدرت مؤخرا عن دار فراديس البحرينية مجموعة شعرية جديدة للشاعر البحريني أحمد مدن حاملة عنوان “الصحو بجرعات ماثلة”، وتأتي هذه المجموعة بعد ثلاثة إصدارات امتدت منذ 1984 بكتابه الأول “صباح الكتابة”، ثم “عشب لدم الورقة” 1992، و”سماء ثالثة” 2000. وبين يديه حاليا قصائد قد تطول مراوحة الكتابة عليها وقد تقصر، يراكمها، ويدفع القليل منها للنشر.

ولد شاعرنا في قرية النودرات البحرينية عام 1955، وحصل على بكالوريوس الهندسة المدنية من جامعة الملك سعود بالرياض، ثم عمل في المجال البلدي أعواما عديدة، كما كان أمينا للسر لأسرة الأدباء والكتاب في البحرين لعدة دورات.

التورط في الواقع

يقول أحمد مدن لـ”العرب” عن توقفه عن النشر منذ 2000 حتى مجموعته الصادرة مؤخرا “توقفت عن النشر ولم أتوقف عن الكتابة، توقفت عن إصدار ديوان شعر ولم أتوقف عن إصدار الشعر، كنت أنشر بين فترة وأخرى في بعض المجلات الثقافية العربية. لم يلازمني أبدا هم إصدار دواوين الشعر ولم يلازمني أبدا الكم من الشعر، فقد كنت أعيشه، وكنت أعتني بتطوير التجربة، وأحرص على أن يكون الجديد مختلفا ومغايرا للقديم”.

"الصحو بجرعات ماثلة" قصائد تمثل تجربة قارب فيها الشاعر الأشياء كما قارب الروح، وقارب ما حوله كما قارب ما في القلب

يتابع مدن “كان باستطاعتي أن أصدر الكثير من الدواوين في هذه الفترة، لكني لست مهووسا إلا بهم الكتابة وبالتجاوز والتغاير واللعب مع الحياة واللغة والكلمات بطريقتي، لست معنيا بالزمن في النشر ولست معنيا إلا بشروطي. كثيرا ما فقدت قصائد وأحيانا مخطوط ديوان، دون أن يلازمني الندم ، ودون أن أبحث عنه”.

عن مناخات مجموعة “الصحو بجرعات ماثلة” يحدثنا الشاعر “هي تجربةٌ قاربت فيها الأشياء كما قاربت الروح، وقاربت ما حولي كما قاربت ما في القلب، وحاولت أن ألمس ما أشعر وأن أشعر ما ألمسه. حاولت القصيدة وركوب الحبر وامتشاق الروح، حاورت ظلي على الورقة محفوفا بالماء والنخلة وأعناق الكلمات. هي محاولات لست متأكدا من نجاحها إلا بقدر ما تنثره من أسئلة، وبقدر ما تورطني في الواقع وفي اللغة وفي الخيال وفي الحلم وفي إيقاع الحياة وإيقاع الكلمة. لست متأكدا قدر التداخل والتورط أو قدر التوحد والانفصال”.

تشكيل الفن

ركوب الحبر وامتشاق الروح
ركوب الحبر وامتشاق الروح

يتضح في عدة نصوص من المجموعة أثر القرية بكل تمثلاتها على اشتغال أحمد مدن الشعري، إذ نلامس التجربة التي تأتي وكأنها ارتداد للطفولة، والحنين إلى زمن لن يعود. وكأنها جزئية من احتفالية الشاعر بالأرض وبالتاريخ وبذاكرة العجائز المنسية للمكان.

من هنا نتحسس أحمد مدن وهو ينطلق بنصه من الداخل “القرية- البيت- البحر” إلى الخارج “العالم- المدينة”، متخذا من البيت كيانا لشعرنة الأمكنة التي تعطي الإنسان حالات من التوازن في ترتيب الفوضى (فوضى العالم/ المشاعر/ الذات والآخر) عبر تنظيم القرية والكائنات الصغيرة التي تحيط بها.

وعن هذا الشأن يعلق شاعرنا “الطفولة، أي خطوتك الأولى، أي لحظتك المبكرة، أي امتدادك الروحي والثقافي، هي كتابتنا الأولى وهي إيقاعنا الأول الذي ما زال يراقصنا. ليست القرية فقط في الديوان، هناك المدينة وهناك الأشخاص وهناك الحاضر والماضي والمقيم والعابر والراهن. إنها جماليات الزمان وجماليات المكان. إنها محاولة للإمساك بالزمان وبالمكان، وهي لحظةٌ بعضٌ منها ما زال طريا، ما زال يشاهدنا وما زلنا نشاهده، وبعضه أصبح متخيلا، لكنه يعيش بين جوانحنا، ونحاول التعويض عن فقده المادي بالاحتفاظ به روحيا”.

وفي السياق نفسه يرى مدن أن عناصر المحيط الروحية والمادية هي التي تساهم في تشكيل الفن، ويؤكد على أن الشعر أوله، وأن الواقع قد ساهم في تشكيل وعينا وتشكيلنا المادي والنفسي، وأن اليومي المعيش والروحي هو واقعنا، ليصل إلى أن النتيجة اللاحقة متعلقة بقدرة الشاعر وأدواته الفنية على مقاربة هذا الواقع وتشكيله فنيا.

إثر سؤال عن قراءته للمشهد الشعري البحريني المعاصر يجيب أحمد مدن “المشهد الشعري في البحرين مشهدٌ متعدد، تتفاوت فيه التجارب من تجربة إلى أخرى ومن شاعر إلى آخر، هناك تجارب حلقت كثيرا في فضاء الشعر العربي وذهبت عميقا في التفرد وأثبتت حضورها في المشهد الشعري العربي برمته، وهناك تجارب ما زالت تواصل العطاء وما زالت تكتب تجربتها الجميلة، وهناك تجارب لم تكمل المسيرة لسبب هنا أو لسبب هناك وتوقفت، أو أخرى تراوح مكانها، وتجارب لم تجهد نفسها، ولم تشتغل بالتجربة الجادة، وتجارب شابة قادرة على النمو والازدهار، وتجارب تجهد من أجل أن تقرب الشعر ولا تلاقيه. إن كل ذلك جزء من مشهد حاضر الشعر العربي”.

سابقون ولاحقون

في ختام الحوار توقفنا عند أسرة الأدباء والكتاب البحرينيين وكيف عادت مؤخرا بدماء جديدة مقبولة لدى جميع الأطياف الثقافية، وبصفة ضيفنا كان أمينا للسر في الأسرة لعدة دورات، سألته إن كانت هنالك رغبة في العودة إلى أسرة تلملم شتات الشعراء والأدباء البحرينيين لما قبل 14 فبراير من عام 2011؟ وماذا يفعلون من خلال الأسرة أو غيرها لردم الهوة وتجسير الحالة الإنسانية والإبداعية في البحرين؟

الطفولة خطوة المبدع الأولى ولحظته المبكرة، أي امتداده الروحي والثقافي، وهي الكتابة التي تبقى راسخة مدى الزمن
 

يختتم مدن بالقول “الزمان غير الزمان، والظروف غير الظروف، والأفكار والمبادئ والشخوص غير الأفكار والمبادئ والشخوص، ولا نستطيع أن نرجع الماضي، وأعتقد أن من عاش تلك المرحلة كتبها ومارسها بطريقته، وأتى من يكتب هذه الفترة ويمارسها بطريقة أخرى، وبعيدا عن تقييمنا لتلك المرحلة أو هذه المرحلة، علينا أن نعتاد على التغير والاختلاف، وأن نتفهم جيدا إيقاع الحياة”.

ويضيف “لقد ساهم السابقون بشروطهم وشروط ظروفهم، واللاحقون  يرون هذا الدور بشروطهم وظروفهم. لقد تعددت المراكز الثقافية والأدبية، لم تعد الأسرة وحيدة، إن الحقل متنوعٌ  وبألوان متعددة ومختلفة، المهم من يترك أثرا، أفرادا أو مؤسسات”.

15