الشركات الناشئة فرص واعدة للشباب نجاحها مرهون بالفكرة المبدعة

أصبح الاستثمار في تقنيات قطاع التكنولوجيا ملاذا للكثير من الشباب لإيجاد فرصة حقيقية لإثبات الذات وتحقيق الطموحات ومواجهة شبح البطالة، انطلاقا من فكرة خلاقة قادرة على تلبية متطلبات السوق، فتتحول إلى شركة ناشئة تدر أرباحا واعدة.
القاهرة – استقطب قطاع التكنولوجيا شريحة كبيرة من الشباب حول العالم بمن فيهم العرب، المتحمسين لكل ما هو جديد في ثورة المعلومات والإمكانيات الهائلة لشبكة الإنترنت وطفرة التطبيقات الجديدة التي ظهرت مؤخرا.
وجاء صعود الشركات الناشئة التي يديرها الشباب متوازيا مع نجاح الآلاف من التطبيقات الذكية عالميا، ما يمهد الطريق للملايين من الشباب حول العالم لتكون إحدى وسائل تحقيق الأحلام بشكل سهل وسريع، فكل ما يحتاجه الشاب فكرة ذكية ومميزة.
واستضافت السعودية أول مؤتمر لهاكاثون بالشرق الأوسط في أكتوبر الماضي، وهو إحدى أشهر الفعاليات العالمية لعرض ودعم مشروعات البرمجة وتطوير التطبيقات التي يعمل عليها الشباب ويحتاجون للدعم لتنفيذها.
وحقق المؤتمر إشادة عالمية ونجاحا لافتا، ما يشجع على تكرار الفكرة في أماكن مختلفة، خاصة أن هذا الاتجاه حقق نجاحات كبيرة، بدأت على أيدي شباب في دول عربية مختلفة، وكشفت حصيلتها عن قدرة فائقة في التعامل مع التكنولوجيا، وتوظيفها بما يحقق طموحات قطاع كبير من الشباب.
وتستعد إحدى شركات الاتصالات الكبرى في مصر لاستضافة مؤتمر هاكاثون في القاهرة، الذي يجمع أكثر من 100 مبرمج شاب تم اختيارهم بعناية عبر مسابقات، يمتلكون أفكارا ومشروعات جديدة وبراقة لعرضها على مدار ثلاثة أيام من 13 إلى 15 ديسمبر المقبل.
ومن ضمن أهداف المؤتمر مساعدة المشروعات الرابحة بدعم مالي وتيسير تفعيل البرمجيات لمواجهة بعض العمليات البيروقراطية عبر الاستعانة بها في الأعمال الإدارية.
ويمثل الحدث المصري الجديد انعكاسا لحالة الرواج والنشاط الشبابي الكبير التي بدأت تنتشر في الآونة الأخيرة، وباتت تعرف بالشركات الناشئة (Startups) وتعتمد أغلبها على الشباب وأفكارهم في المقام الأول، لتكون تحديا جديدا لمواجهة شبح البطالة وصعوبة إيجاد الوظائف وتحقيق أحلام الأجيال الجديدة في إثبات الذات واستثمار المستقبل.
نجاح الشركات الشبابية الناشئة مرهون بجذب استثمارات وتمويلات ضخمة، ما يجعل تحدي الوصول إلى القمة والبقاء لفترة طويلة أمرا معقدا
ويعاني الشباب المصري مشكلات كثيرة، تتمثل أكبرها في وجودهم داخل عالم مغلق يواجه شبح الفقر والأزمات الاقتصادية التي تعصف بكل طموح وتقوض البحث عن فرصة حقيقية للعمل والإنتاج والعيش في رغد، لتأتي الشركات الناشئة وتتحول في العقدين الأخيرين إلى ما يشبه طوق نجاة للكثير من الشباب الذين كاد الإحباط يفتك بهم.
وساهم عدم تعقيد التنفيذ وسهولة الإنتاج في مساعدة الأجيال الجديدة على بدء تلك المشروعات الصغيرة، وبدا بإمكان شخص يملك فكرة فريدة أن يقوم بإنشاء شركته الخاصة بعد الاستعانة بأحد مطوري التطبيقات، الذي يكون بدوره مسؤولا عن ترجمة الفكرة إلى تطبيق على الهاتف أو إلى موقع إلكتروني.
رحلة تبدأ بفكرة
لا يتطلب الأمر الكثير من الأموال، لأن الفكرة في طور النشأة تلعب الدور الأكبر، لكن الرحلة الحقيقية تبدأ بعد بلورة الفكرة في نموذج مصغّر يمكن للشاب عرضه على المهتمين بتمويل تلك الأفكار أو عبر المشاركة في مؤتمر هاكاثون الذي تستعد مصر لاستضافته.
ووفقا لإحصائية على موقع “ستارت اب رانك”، وهو موقع مختص في الشركات الناشئة في العالم، تحتل مصر المرتبة الثانية عشرة من حيث عدد الشركات الناشئة التي تأسست على أيدي شبابها، وبلغت 333 شركة في عام 2017. وجاءت خدمات تلك الشركات على شكل تطبيقات للهواتف المحمولة ومواقع إلكترونية.
وجاء في الإحصائية ذاتها أن الولايات المتحدة احتلت المركز الأوّل بعدد شركات ناشئة بلغ الـ4838 شركة، والهند في المركز الثاني بـ2039 شركة، وبريطانيا في المركز الثالث برصيد 855 شركة. فيما جاءت إندونيسيا والبرازيل في المركزين الرابع والخامس بـ784 شركة و586 شركة على التوالي.
وتعزز تلك الأرقام أحلام العديد من الشباب، وكان من بينهم الصيدلي المصري أمير برسوم الذي حمل إحدى تلك القصص الناجحة والملهمة بعد أن نجح في تحويل ساعات انتظاره الطويلة في عيادات الأطباء خلال عمله السابق كمندوب مبيعات في شركة أدوية إلى مشروع تجاري وتقني عملاق أطلق عليه “فيزيتا”، وهو مشروع قائم على تأسيس شبكة إلكترونية تجمع الآلاف من الأطباء في مختلف التخصصات، ويستطيع المريض من خلال التطبيق البحث عن الطبيب المناسب حسب المنطقة المقيم فيها وحجز موعد، وقراءة تقييمات المرضى الآخرين للطبيب.
وأعاد برسوم بمساعدة زميله أحمد بدر إنتاج مشروع أميركي مشابه يدعى “زوك دوك”، لكنه اختار أن يضفي عليه لمسة مصرية، واختار الترويج لأطباء ومعامل ومستشفيات في 9 محافظات مختلفة، لينجح في غضون ثلاث سنوات في جمع ما يقرب من 3.5 مليون دولار.
ويقول برسوم لـ”العرب” إنه أمضى ساعات طويلة في العيادات أثناء عمله والتي ألهمته في النهاية بضرورة إيجاد طريقة ذكية تساعد على تعزيز التواصل بين الطبيب والمريض وتسهل التعامل بينهما، وتخفف من معاناة المريض في الانتظار لمدة طويلة.
ويضيف أن الفكرة جاءت من هذا المنظور، وتحولت منصة “فيزيتا” مع الوقت إلى شبكة ضخمة تجمع الآلاف من الأطباء والملايين من المستخدمين في مصر، واعتبر المسؤولون المشروع طفرة في مفهوم الاتصال بين المرضى والأطباء ومنظومة تطوير وتحديث القطاع الصحي.
معاناة تتحول إلى مشروع
لا تختلف تجربة الشاب أمير شريف عن زميله أمير برسوم كثيرا، فكلاهما اختار أن يحول معاناته وأزمات من حوله لمحطة ينطلق منها مشروع ربح الكثير من النجاح والثناء.
وكما حوّل برسوم معاناة انتظاره لدى الأطباء إلى تطبيق يسهل حياة المرضى، انطلق شريف عام 2011 بمشروعه “وظف” على الهواتف المحمولة ليواجه أكبر مخاوفه، وهي البحث عن وظيفة.
وظل المبرمج الشاب لسنوات يقفز من مقابلة وظيفة لأخرى، ومن عمل إلى آخر بحثا عن فرصة تتبنى أحلامه وتحقق طموحاته، وكانت تنتهي بالصدام مع واقع مليء بالأزمات الاقتصادية وقدرات بلاده المتعثرة في النهوض.
وكانت معاناة شريف الكبرى في الاطلاع على أحدث الوظائف وإعلام الآخرين بها، فكانت تلك هي مهمة “وظف” البدائية التي اختارها لها كمنصة إلكترونية بسيطة وسهلة تحمل في طياتها الآلاف من الوظائف لتساعد الملايين من الشباب على العمل.
وأوضح أمير شريف أن أي شاب يمكن الوصول لوظيفته التي يحلم بها عن طريق إنشاء حساب على الموقع، ورفع جميع مؤهلاته وخبراته المهنية ثم بضغطة زر يمكنه تصفح المئات من الوظائف المناسبة، وأنه في العام الماضي نجح من خلال تطبيقه في إيجاد وظائف لـ60 ألف شخص في خمسة آلاف شركة، ونجحت شركته الناشئة في الحصول على تمويلات من عدة مؤسسات استثمارية أوروبية تقدر بحوالي 1.7 مليون دولار.
ولم يتوقف سقف أحلام شريف عند التقريب بين الشباب الباحثين عن عمل والشركات، لكنه قرر تنمية شركته لتصبح مسؤولة عن تأهيل الشباب لسوق العمل قبل إيجاد الوظيفة عن طريق استضافة ورش عمل ومؤتمرات وتقديم دورات متخصصة في تنمية الذات وقدرات الكتابة والإبداع والعمل تحت ضغط.
ورغم تنوع أفكار الشباب أصحاب الشركات الناشئة، بين مواقع وتطبيقات حول شتى مناحي الحياة بداية من المأكل والملبس وحتى العقارات والسيارات، إلا أن أغربها كان مشروع “وفيات” الذي أطلقته مجموعة من الطلاب في جامعة القاهرة، وهم: عمر حمدالله ويوسف السماع ونسمة الفار.
وجاءت فكرة الموقع عندما أصيب صديق لمؤسسي المشروع بصدمة كبيرة بعدما تسبب سفره وصعوبة الوصول إليه في عدم حضوره عزاء والده، ما أصابه باكتئاب شديد كان حافزا لأصدقائه لإطلاق مشروع يمنع تكرار تلك الحادثة بإنشاء موقع خاص بإعلان الوفاة والنعي وإرسال التلغرافات، وإصدار نسخ من القرآن على روح الفقيد.
وتشير نسمة الفار، أحد المؤسسين للمشروع، إلى أن الهدف كان إنشاء مساحة على الإنترنت مخصصة لتخليد ذكرى كل متوفى، حيث يجتمع الأهل والأصدقاء لمشاطرة الأحزان وتقديم التعازي بوسيلة سهلة أينما كانوا، والمشاركة بقصص وذكريات تكرم حياة المتوفى كما يجب.
ويقدم الموقع أيضا إحصاءات لأعداد الوفيات في مصر، وكل محافظة على حدة، وعقد مقارنات عن طريق خدمة “إنفوغرافيك” بين معدل الوفيات في المناطق الريفية
والحضرية. وتضيف الفار أن انخفاض قراء الصحف وصفحات الوفيات كان سببا رئيسيا للبحث عن بديل يتناسب مع روح العصر، ومن هنا جاءت فكرة “وفيات” التي لا تتوقف خدماتها عند النعي والتشاطر، بل تقدم أيضا صفحة تكريم المتوفى، التي تمكّن أصدقاء وأقارب المتوفى من كتابة سيرته الذاتية، وتتضمن إنجازاته ومواقفه وصفاته، ونشر صفحة التكريم على مواقع التواصل الاجتماعي.
استثمارات ضخمة
يقدم موقع “وفيات” خدمة التلغراف للمغتربين خارج البلاد، ويستطيع المغترب إرسال تلغراف تعزية من خارج مصر عبر الموقع بمقابل مادي رمزي قيمته دولار واحد.
ورغم عدم استساغة كثيرين للفكرة، إلا أنها سرعان ما تقدمت الصفوف الأولى للشركات الواعدة بعد أن جاءت ضمن قائمة أفضل شركات ناشئة في مصر لعام 2016.
يشير خبراء الاقتصاد إلى أن نجاح تلك الشركات الشبابية مرهون بجذب استثمارات وتمويلات ضخمة، ما يجعل تحدي الوصول إلى القمة والبقاء لفترة طويلة أمرا معقدا.
وكشفت مجلة “فوربس” عن إحصائية تبدو مفزعة لكثيرين، قالت إن 95 بالمئة من الشركات الناشئة تغلق وتنسحب من السوق في غضون ثلاث إلى أربع سنوات من تأسيسها، فالملايين بل المليارات التي تحققها الشركات الناشئة الناجحة لا تعني أن نسب نجاحها في المطلق قد تكون مرتفعة.
وتنظر الكثير من المؤسسات ورجال الأعمال إلى تلك الشركات باعتبارها كنزا مضمونا للاستثمار وتحقيق الأرباح. ففي حالة فشل تسع شركات من أصل عشر تم تمويلها، فإن الأرباح العائدة من نجاح تلك الشركة في واقع الأمر تعوّض بل وتتجاوز بكثير ما دُفِع من تمويلات للتسع شركات الباقية التي لم يُكتب لها النجاح.
وتبقى مميزات وعيوب إنشاء شركة ناشئة أمام الشباب متعددة ومترابطة، وتظل الميزة الأكبر والأوضح هي قدرتهم في التعبير عن أنفسهم من خلال أفكارهم ومحاولة السعي وراء تحقيقها وتحسينها، والأمر بالنسبة للشباب ليس مجرد مهنة أو مصدر محتمل لكسب المال بل هو حلم يعيشونه ويحققونه.
كما أن بناء تلك الشركات أو العمل بها يحفز على تعلم الكثير من الأشياء المختلفة. فالشركات الناشئة لديها مسؤوليات عديدة، وأهمها مهارة التعلم وسرعة التطور. ونتيجة لطبيعة تلك الشركات فإنها نادرا ما تعطي مهاما وظيفية واضحة، بل مُطالب الشاب طوال الوقت بتعلم الجديد ليحسن التصرف وقت الأزمات.
وهناك بعض المزايا الأخرى التي يحظى بها العاملون في تلك الشركات، إذا قورن الأمر بالعمل في الشركات الاعتيادية، مثل إمكانية تغيير أوقات العمل بحرية، وإمكانية العمل من المنزل في بعض الأحيان عن طريق الإنترنت، وتلافي الطابع الرسمي في أماكن العمل. وجميع تلك المزايا تأتي ملائمة لطبيعة العمل المطلوب إنجازه من جانب الشباب.
وإحدى أهم مشكلات الوظائف في تلك الشركات أنها تفتقد للاستقرار أو الأمان، لأن أغلب تلك الشركات تنتهي بالفشل لأسباب أهمها إمكانية ظهور تكنولوجيات حديثة قد تعصف بالفكرة التي أسست شركة استنادا عليها.
وإلى جانب تلك المخاطر فإن العاملين الشباب في تلك الشركات لا يتقاضون رواتب عالية كما يأملون، لأن تلك الشركات، وبالأخص في سنواتها الأولى، تتوجه أولويات الصرف فيها لأشياء عدة غير الرواتب، كتطوير منتجاتها وتسويقها وما إلى ذلك.
كما أن الحياة الاجتماعية للعاملين بتلك الشركات ولأصحابها تتأثر بشكل كبير ومباشر.
ويرى خبراء في المشارع الناشئة أن تلك المشكلات لا تشكل عائقا كبيرا أمام مؤسسي الشركات الناشئة، فالشاب في بداية حياته يكون قادرا على التمرد والمجازفة والتحمل والتخلي عن بعض الجوانب مثل الراحة والمعاملات الاجتماعية في مقابل تحقيق الذات.
وهنا يصبح الإتيان بالأفكار الخلاقة التي من شأنها تسهيل الحياة العامة والإلمام بآخر تطورات التكنولوجيا الحديثة وتحمّل مجازفات تلك الشركات وضغوطها، أشياء غالبا ما تتوافر في الفئة العمرية التي تناسب سن الشباب، ما يبعث بأمل يؤكد قدرة هؤلاء على إثبات جدارتهم في مجتمع يلقي الكثير من الاتهامات بالتقاعس على الأجيال الجديدة التي تبحث لها عن مكان في الواقع وفق تطلعاتها الخاصة.