الشدة التلمسانية زي أميرات الأندلس ورثته عرائس تلمسان

صنفت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو” منذ ثلاث سنوات لباس العروس في محافظة تلمسان الجزائرية المسمى محليا “الشدة” ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية. وليس ذلك إلا دلالة على القيمة التاريخية والتراثية والفنية لهذا اللباس المميز عن غيره من الألبسة التقليدية التي ترتديها العروس في المنطقة العربية، وهو ما جعل الشدة تتجاوز التراث الثقافي اللامادي للجزائر وللعالم العربي لتصبح تراثا ثقافيا للإنسانية جمعاء.
الاثنين 2015/12/21
موروث تزاوجت فيه الحضارات العربية والأندلسية والعثمانية

الجزائر - يخضع صنع الشدة إلى مهارات وطقوس ارتبطت منذ عقود بالاستعداد للعرس التقليدي في تلمسان، حيث تستعد العائلة لتوفير ما يلزم ماديا لتتمكن من تغطية مصاريف إعداد الزي التقليدي باهظ الثمن لترتديه البنت العروس في ليلة العمر وتتباهى به النساء في الجزائر لأنه يعد من أرقى وأجمل وأغلى ما يمكن أن ترتديه المرأة في تلمسان، ولأنه كان لباس الأميرات في العهد الأندلسي.

وقد حرصت العائلات التلمسانية على استحضاره في حفلات الزفاف وتمريره عبر الأجيال، إذ بات من المستحيل على أي عروس أن تخرج من بيت أهلها دون هذه القطعة رغم ثمنها الباهظ لاحتوائها على الذهب والجواهر بشكل كبير.وهذا التمسك بالشدة التلمسانية كركن أساسي في الثقافة المحلية للمنطقة جعلها تصبح في عصرنا الراهن رمزا لهوية المنطقة.

كما تم إدراج الطقوس والممارسات الاحتفالية المرتبطة بمراسم الزفاف في منطقة تلمسان عام 2010 ضمن قاعدة بيانات تخص التراث الثقافي غير المادي التي تشرف عليها وزارة الثقافة الجزائرية. ومن شأن هذه التصنيفات أن تحفز الأجيال الشابة اليوم والأجيال القادمة على ضرورة الحفاظ على هذا الموروث الثقافي والافتخار به كإحدى ميزات أعراس مدينة تلمسان التي لم تتمكن موجات الموضة وحداثة المجتمعات من محوها من التراث أو تغيير طابعها الأصيل رغم قدمها.

زي الشدة تراث ثقافي غير مادي عالمي، وهو موروث تمتزج فيه الحضارات العربية والأندلسية والعثمانية

وذكرت الناشطة في جمعية “الأصالة” بمحافظة تلمسان بأقصى الغرب الجزائري شلبية بودية في اتصال لـ”العرب”، أن الزي التقليدي المحلي المعروف بـالشدة، الذي تتزين به العروس عند زفها إلى بيت الزوجية، تحول إلى موروث إنساني بعدما صنفته منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم “يونسكو” كتراث ثقافي غير مادي عالمي، فهو موروث تمتزج فيه الحضارات العربية والأندلسية والعثمانية، فـ”القفطان من الحضارة العثمانية” و”الفستان” من الحضارة العربية، أما “الشاشية” فهي من الحضارة الأندلسية.

وتضيف الناشطة والمصممة قائلة ”إن الشدة تمثل اختبارا مهمّا للعروس عند زفافها لبيت زوجها، ملزمة بارتداء هذا الزي الذي يقدر وزنه بحوالي 15 كلوغراما في قدرتها على تحمل ثقله وجماله وتفاصيله، وتظهر قدرة العروس على التكيف مع الحياة الجديدة في بيت الزوجية”.

ورغم غلاء أسعاره وعدم تمكن الجميع من اقتنائه لأن سعره يصل إلى قرابة الخمسة آلاف دولار، إلا أن “أرستقراطية” المجتمع التلمساني، وتمسك الأهالي به رغم موجات الموضة النسوية في هذه المناسبات، أبقى زي الشدة بمثابة المرادف للأفراح والزيجات في مدينة تلمسان، وهو وجه بارز من أوجه العادات والتقاليد الراسخة في المنطقة منذ قرون مضت.

العائلات التلمسانية تحرص على استحضار الزي في حفلات الزفاف وتمريره عبر الأجيال

ويقول مهتمون بالشأن المحلي بأن “مقاطع زي الشدة تعود إلى القرن 11 ميلادي، وقد اكتسب شكله وتفاصيله الحالية على مر العصور، حيث امتزجت فيه حضارات العرب والأندلسيين والعثمانيين، وكان خلال الحضارة الأندلسية زيا مميزا لا ترتديه إلا أميرات القصور الحاكمة في عواصم الأندلس والحواضر التابعة لها في المغرب العربي”.

وتقول شلبية بودية “زي الشدة يتكون من “البلوزة” وهي فستان حريري مطرز بـ”الفتلة” (خيط مغلف بالذهب أو الفضة) يوضع فوقه ثوب آخر مطرز بخيوط من الذهب يسمى “السترة” مصنوع من الفتلة أيضا، ومرصع بالمجوهرات والحلي التي تغطي منطقة الصدر ويلبس فوقه معطف طويل مطرز وهو “القفطان”، بالإضافة إلى “المثقلة” و”الشاشية”، وهي عبارة عن تاج مخروطي مرصع بالأحجار الكريمة ، وكلا القطعتان تستخدمان كغطاء لرأس العروس وكلاهما يمكن أن يزين بإضافة “التعويقة”، وهي أنواع مختلفة الأشكال والأحجام من القلائد المرصعة بالجوهر والأقراط المخرزة المعروفة محليا بـ”القرصة”.

ولا زال زي “الشدة” محافظا على أصوله ووفيا لتفاصيل موروثه، فرغم غلاء المواد الأولية وندرة اليد المحترفة وتراجع أعداد الحرفيين المختصين في صنعه إلا أن إنتاج الشدة يبقى من اختصاص ورشات عائلية ترث الحرفة أبا عن جد، ولم يتم التغاضي عن أي جزء من الأجزاء أو قطعة من القطع تحت أي طائل سواء كان من قبيل “دمقرطة اللباس”، أو إدخال اجتهاد مستوحى من تجديدات الموضة العصرية، فهو يتشكل في العموم من 12 قطعة.

وتذكر المتحدثة وهي مصممة مختصة في الشدة، أن هذا الزي يستمد بريقه وقوته من ارتباطه بالذاكرة الجماعية عبر التاريخ، وأي مسعى لتحويره أو الاجتهاد فيه قد يفقده خصوصياته ونجوميته، فهو ليس موضة تنتهي خلال أشهر بل جزءا من الشخصية الجزائرية وعلامة دالة على الهوية المحلية، وليست هناك عروس في مدينة تلمسان تزف دون شدة.

وتابعت عن صناعة هذا الزي المحلي قائلة” إن هذه الحرفة ليست متاحة للجميع، ولا زالت اليد هي التي تصمم وتطرز وترصع جميع قطع زي الشدة، وهي عملية جد معقدة وتتطلب جهدا مضنيا وصبرا وتركيزا ومهارة ودقة، لأنها تمر بعدة مراحل وبعدد من المتدخلين، بدءا من قطع قماش “القطيفة” إلى التصميم والزخرفة مرورا بـ”الفريض”.

وطرق صناعة الشدة التلمسانية اليدوية التي تخضع إلى معايير الدقة والخبرة والمهارة منذ مرحلة نسيج القماش، وتستجيب لمتطلبات الذائقة العامة في مدينة تلمسان وتعتمد الطرق التقليدية لإنتاج جميع القطع التي يتألف منها هذا الزي إلى جانب ترصيعه وتزيينه عبر تطريز خيوط الذهب والفضة والأحجار الثمينة تجعل ثمنه باهظا وتجعله قطعة نفيسة تقترب مرتديتها من مكانة الأميرات الأندلسيات اللاتي كن ترتدينه قديما.

12